الرواية ليست النهاية
... وما زال سؤال الرواية يلاحقني في معظم المقابلات الصحافية التي تجري معي بين آونة وأخرى؛ تزاولين حرفة الكتابة منذ عقود، ونشر لك عديد من الكتب الشعرية والنقدية وغيرها، ولكنك لم تقتربي من فكرة كتابة الرواية، رغم أنك تعيشين أجواءها، وتشاركين القرّاء كثيرا في قراءاتك الروائية .. فمتى نقرأ روايتك؟
إجابتي دائما أنني لم أكتبها. ببساطة، لأنني لا أحبّ كتابتها أو لأنني لا أملك موهبة كتابتها. لكن السائل لا يقتنع بذلك، وكأن الرواية في زمنها الافتراضي الأخير هي نهاية الطريق لمن احترف الكتابة فكرة أولية للتعبير عن ذاته وأفكاره، وللوصول إلى المتلقّي بأيسر الطرق!
حسنا.. هذا افتراضٌ غير لائق لأن يتبنّاه أحد من المهتمين بعالمي الكتابة والقراءة عموما، أو أن يروّجه من يعيش على هامش هذين العالمين، فكيف بمن يجعل من هذا الاهتمام عمله الصحافي يحاور فيه من يرى قدرتهم على الاستمرار في هذين العالمين؟
لا الرواية هي النهاية ولا الشعر ولا القصة ولا أي نص أدبي مكتوب آخر، فالطريق طويل وغير منتهٍ، وهذه كلها مجرّد اقتراحات مفتوحة على أفقٍ بعيد، يحاول المرء من خلاله اكتشاف الجديد في لذّة الكتابة ومتعة القراءة وفقا لإمكاناته الفردية التي ينبغي، بالضرورة، أن تكون متطوّرة ونامية للاستمرار. وبالتالي، يبدو سؤالٌ كهذا أحيانا مهينا لكل من يتعاطى الأدب ويختار استجابة لمعطيات موهبته ما يكتب وكيف يكتب. ذلك أن خيار الكتابة بكيفيّتها وتوقيتها ونوعها هو أهم اشتراطات جودة الكتابة وضرورتها الحتمية. أما أن أدرج تلك المهمة النوعية في قائمة محدّدة الأولويات سلفا، فهو ما يمكن النظر إليه باعتباره تعسّفا يحيل الأدب إلى منطقة الرداءة، حتى وإن كان جيدا في النظرة الأولية إليه.
وربما من هذا الفهم المغلوط لمهمة الكتابة باعتبارها إملاءً من المتلقي، نجد أن عددا لا بأس به من الشعراء قد تحوّلوا إلى كتابة الرواية، لا باعتبارها خيارهم الكتابي الحرّ والمنزّهة من فكرة الإملاءات الخفية كما ينبغي، بل باعتبارها من اشتراطات سوق النشر الجديدة، و"موضة" دارجة لدى قرّاء يكتشفون القراءة وفقا لهبوب رياح الموضة في القراءة والكتابة أيضا.
أعود إلى السؤال الذي تصاعدت وتيرة توجيهه لي في السنة الأخيرة، خصوصا بعد مشاركتي في تحكيم في دورة العام الماضي (2022) للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، لأجد أن إصراري على خياري الحر في الكتابة قد تعزّز بدوره، بعد تلك المشاركة التي ساعدتني على فهم ما أملك من رغبات إبداعية، وما يسعدني في تلبيتها دائما. فما قرأتُه من رواياتٍ يتجاوز عددها المائة خلال شهور قليلة، وبمستوياتٍ فنية شديدة التباين، اتضح لي جليا ما كنت أعرفه من دون أن أصرّ عليه، وهو أن معظم ما أنتج من روايات في السنوات الأخيرة كان مجرّد محاولات للتسلّق على أكتاف هذا الفن الإبداعي الجميل، طبعا في ما أصبح يوفره من نجومية سريعة وشهرة كبيرة في مجال الأدب والكتابة والنشر، فالغثّ كثير جدا والسمين نادر وبينهما منطقةٌ تحوي رواياتٍ قد تكون ناجحة على صعيد امتلاكها الحد الأدنى من اشتراطات الكتابة الروائية، ولكنها ما زالت غير قادرةٍ على التجاوز، ولا أرى في كتابها ما يشير إلى وصولها إلى مرحلة التجاوز قريبا!
سيبقى الشعر، إذن، خياري الحرّ الذي بدأت به رحلتي في الكتابة من دون أن أفقد شغفي به مرّة واحدة طوال سني عمري التي مضت على هامش من قصيدةٍ غير مكتملة، ورواياتٍ كثيرة تنتظر من يقرأها في رفوف الشغف وحسب!