الرجل الذي صار كلبا
لا أظنّ أنني شاهدت نسخا لمسرحية ما أكثر من النسخ التي شاهدتها لمسرحية "الرجل الذي صار كلبا"، فقد أسعدني الحظ برؤيتها أكثر من أربع مرّات تقريبا، على مدى سنوات كثيرة، ذلك أن هذه المسرحية التي كتبها الأرجنتيني أوزفالدو دراغون في خمسينيات القرن الماضي أغرت فرقا مسرحية في مختلف الدول لتقديمها في المهرجانات المسرحية في سياق مسرح العبث والمسرح التجريبي تحديدا، فهي، على بساطة فكرتها العامة، تقدّم نموذجا لمشكلات الإنسان المعاصر في بحثه عن وظيفة ليستمرّ في الحياة، وفي سبيل ذلك، يمكنه بسهولة أن يتحوّل إلى كلب حقيقي. فالإنسان، وفقا لفكرة دراغون، هو أكثر المخلوقات مهارةً في التحوّل، وإنه قادر دائما على أن يتغيّر جذريا تحت وطأة ما يثقل كاهله من مشكلاتٍ يرى أن حلها الوحيد بالتحوّل والانزياح عن فكرته البشرية، سواء أكان ذلك بشكل علني ظاهر أم بخفاء لا يكاد يبين.
كتب دراغون مسرحيته في سياق مناخ مسرحي عام، كان يرى في مسرح العبث أو اللامعقول الوسيلة الفضلى للتعبير التمثيلي عن الفكرة الوجودية، والتي تنتهي النقاشات بها إلى الصمت، باعتباره نهاية مفتوحة لمزيد من التفكير. وقد أغرى هذا النوع من الكتابة المسرحية كثيرين، خصوصا بعد أن بادر الكاتب الهنغاري، مارتين إيسلين، إلى ابتكار فكرة "مصطلح العبث" في مقالة شهيرة تحمل العنوان عينه، نشرها في 1962. ومنذ ذلك الحين، جذبت المسرحيات المندرجة تحت هذا المصطلح طلبة المسرح الممثلين الشباب في كل العالم، لأسبابٍ كثيرة، أولها أنها غالبا لا تحتاج إمكانات مادّية كبيرة، وأنها تعتمد على فكرة التمثيل نفسه، وأن من الممكن تطبيقها على أغلب المجتمعات المعاصرة بلا تغييراتٍ كثيرة، كما أنها تعبّر عن أفكار شبابية سادت في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث أصبح الإنسان في مواجهة العالم كله بأفكاره العارية والمكشوفة.
ومن الأسباب الأخرى التي جعلت من هذا النوع من المسرح مغريا ليقدّم في مهرجانات المسرح نزعته التجريبية، والتي تجمع بسهولة ما بين التراجيديا مع الكوميديا من دون أن يشعر المشاهد بالارتباك، وفقا للمفهوم اليوناني القديم للمسرح.
آخر نسخة لمسرحية الرجل الذي صار كلبا، شاهدتها قبل أسبوع قدّمتها فرقة "فو" الكويتية، بقيادة المخرج أحمد البناي، افتتاحية لعروض مهرجان الكويت المسرحي في دورته الثانية والعشرين، بعنوان "الهجين". ولا أدري لماذا غيّرت الفرقة عنوان المسرحية الأصلي، والذي كان أنسب للعرض من العنوان الجديد بكثير.
ورغم أخطاء بسيطة أربكت العرض قليلا، على صعيد المؤثرات الصوتية، إلا أن الفرقة عموما بدت واعيةً جدا فكرة المسرحية الأصلية، ما ساهم في تقديمها للمشاهد وفقا للأسلوب العبثي الذي كُتبت به أساسا، وقد ساهمت إضافة الفرقة الموسيقية في خلفية العرض في إبراج الفكرة مجلّلة بجماليات عالية.
تدور أحداث القصة حول شخصٍ كادح عاطل من العمل، وفي سبيله للبحث عن وظيفةٍ يستطيع أن يعتاش منها وزوجته، أصبح كلبا، فلا توجد شواغر في الشركة الوحيدة التي استقبلته. لكن مدير الشركة تذكّر أن كلب الحراسة قد نفق الليلة البارحة، وبقي مكانه شاغرا، ما يجعل من احتمال توظيف ذلك الشخص ممكنا بدلا منه. وهذا ما حدث فعلا بعد ممانعة قليلة كشفت لنا سهولة أن يهجّن الإنسان تحت وطأة الحاجة! ورغم رفض الزوجة الكبير فكرة تحوّل زوجها إلى كلب، إلا أنها انخرطت بعد قليل في الفكرة ذاتها، لتصبح بدورها كلبةً، وتواجه مصيرها في هذا العالم، برفقة زوجها، نوعا من الاحتجاج بالنباح، الذي لم يعد صوتا للكلاب وحدها، على ما يواجهه الإنسان من صعوباتٍ في الاستمرار بالعيش، من دون أن يضطر لتقديم تنازلات من فكرته البشرية!
"أتعرف كيف تنبح؟.. انبح"، قالها مدير الشركة في أولى محاولاته لإقناع الباحث عن الوظيفة بوظيفة كلب، فتحوّلت كلمة "لا" بقليل من الجهد في التهجين إلى نُباح إنساني مؤلم لمن لم ينبح.. بعد!