الربيع العربي .. متى ننتصر؟

22 ديسمبر 2020
+ الخط -

بعد عشر سنوات من ثورات الربيع العربي، ما زلنا مشغولين بنقد السلطة وخطاباتها وسياساتها، والفرجة على هذه الخطابات الشعبوية وهي تنجح، وهذه السياسات الغوغائية وهي تستمر، وهذا التخريب الممنهج وهو باقٍ ويتمدّد. ما زلنا نتحسر ونتهم بعضنا بعضا، ونتهم الحلفاء الإقليميين للأنظمة، السعودية والإمارات وإسرائيل، ونتهم المؤامرة الغربية والأميركان، فيما اختار بعضنا أن يتهموا سلمية الثورة بوصفها مثالية، وأن ينحازوا إلى حلٍّ مسلح ما!
ساهمت أجواء الاستقطاب المسمومة في "وصم" المراجعات بوصفها تراجعاتٍ وخيانات، ونفاقا للإسلاميين، إذا جاءت من الطرف العلماني، وانبطاحا أمام العلمانيين إذا جاءت من الطرف الإسلامي، ومغازلة للسلطة في الحالتين! علا نجم المزايدين، وصاروا نخب ما بعد الهزيمة، وأمراء الانقلابات والدماء. ارتفعت أسهم الشعبوية في بورصة الثورات الافتراضية، غرام "الجعجعة" أغلى من طن الذهب، حتى أن السجناء والمشرّدين لم يسلموا من افتراءاتهم، فالسجين إذا كتب من داخل سجنه يراجع موقفه فالرسالة مكذوبة، وكاتبها "أمنجي". والمغترب إذا فكّر، مجرد التفكير، في مراجعة اختياراته وانحيازاته، فهو يريد الرجوع إلى بلده على حساب "القضية". عشر سنوات من التبشير بثورةٍ بلا خطة، إلا إذا كانوا يخطّطون للفشل الذريع بوصفه استثمارا ناجحا في حشد الأنصار والتمويلات، وتحقّق المهاويس من معدومي الضمائر والمواهب، على حساب أعمار وأرواح من يصدقونهم، من الحالمين، ويسيرون خلفهم إلى اللاشيء، "عشرية سوداء" بلون الهزيمة، حمقاء، أعيت من يداويها، أو يحاول تغييرها، ولو في سرّه.
ليست الهزائم قدرا، تجربة تونس تخبرنا بذلك، واجهت تونس ثورة مضادّة، ومالا سياسيا قذرا، ومؤامرات إقليمية، وعلى الرغم من ذلك مرت بأقل الخسائر. ليس الجيش التونسي من شكل الفارق، إنما تحالف الأضداد، من نخب الثورة التونسية، واستعدادهم للتنازل والصبر، والرضا بأنصاف الحلول. الفارق ليس بين جيشين، بل بين نخبتين، الجيوش لا تحرّكها ميادين الهتافات، إنما ثغرات النزاعات، فإذا وجدوها، مرّوا من خلالها.
ليست الديمقراطية حلا، تجربة ليبيا تخبرنا بذلك، جاءت الصراعات الانتخابية على حكم الدولة، قبل أن تأتي الدولة، وبدلا من أن يساهم الصندوق في ترشيد الصراع ساهم في تعميقه. شهدت مصر شيئا قريبا من ذلك، برلمانا قبل الدستور، ورئيسا قبل الدستور، وجماعة فوق الدستور. الديمقراطية اجتهاد بشري، نسبي، له ثوابته، بلا شك، وله أيضا متغيّراته، حسب سياقات التطبيق، ومشكلتنا مع الديمقراطية لم تكن في الشعوب غير المؤهلة، إنما في النخب غير المؤهلة. انكشف التنظير الذي يلفق علاقة بين تراث طاعة ولي الأمر والشورى غير الملزمة والديمقراطية الغربية، ويحاول استخراج المنغنيز من قصب السكر. جاء التطبيق ليكشف بوضوح أن الديمقراطية بالنسبة لإسلاميين كثيرين مجرّد وسيلة للوصول إلى الحكم، ومزاحمة العلمانيين وإزاحتهم. الاستثناءات موجودة وقليلة وغير مؤثرة. على الطرف الآخر، كان الاستعجال سيد الموقف. يريد العلمانيون ديمقراطية على مقاس تطلعاتهم، تأتي بهم أو بأصدقائهم أو بإسلاميين مستنيرين في بلاد نصف سكانها من الأميين!
الثورة أيضا ليست حلا، كما أنها ليست جريمة أو مؤامرة. الثورة "إكراه" سياسي، دفعتنا إليه حالة الانسداد، وغياب أي فرصةٍ لأي مشاركة في أي تغيير حقيقي. حكام لا يملون، أكثر من عشرين سنة في تونس، أكثر من ثلاثين سنة في مصر، أكثر من أربعين سنة في ليبيا ومثلها في اليمن، أكثر من خمسين سنة في سورية، عقوبات جماعية لشعوب بأكملها. الثورة كانت نتيجة طبيعية، وانفجارا متأخرا، لكنها وحدها لم تكف، ولن تكفي، ولا أتمناها في القريب، قبل أن يكون لها خطة، وقادة، واتفاق "حقيقي" حول شكل الدولة، واستعداد للتفاهم "الواقعي" مع المؤسسة العسكرية التي لن تجدي معها أي مواجهاتٍ مسلحة، فهي مواجهاتٌ كارثية في الحالتين. إذا نجحت عادت بنا إلى القبيلة، وإذا فشلت، كما يحدث دائما، عادت بأصحابها إلى المعتقلات والتيه، وزادت من توحش الدولة، هكذا يخبرنا التاريخ.