الربح المُشترَك في مواجهة الإمبريالية

22 اغسطس 2024

(Getty)

+ الخط -

بين عامي 2013 و2023، استثمرت الصين نحو تريليون يورو في 152 دولة ضمن مبادرة الحزام والطريق، بحسب تقديرات معهد المشاريع الأميركي، شملت إقامة أكثر من ثلاثة آلاف مشروع تتركز في تطوير الموانئ ومد السكك الحديد وشبكات الطرق، وأبرمت 19 اتفاقية تجارة حرّة مع 26 دولة ومنطقة. نسجت الصين علاقاتٍ جديدةً مع ثلاثة أرباع الدول على أساس المنافع الاقتصادية، فهل يعني ذلك توسّع نفوذها بشكل يجعلها قُطباً عالمياً حقيقياً يغيّر النظام العالمي أحادي القطبية، الذي تتزعمه الولايات المتّحدة منذ نهاية الحرب الباردة؟

تحرص الصين في آخر سنواتٍ على تقديم نفسها ناطقةً باسم "دول الجنوب العالمي"، وهي التسمية الأكثر رواجاً للبلاد الواقعة ضمن نطاقات الدول النامية، وما كان يعرف سابقاً بـ"العالم الثالث". تقول الصين إنّ دول الجنوب تجمعها حاجاتها التنموية ومعاناتها المشتركة من الإمبريالية الغربية، سواء كانت ذات اقتصادات نامية أو ناشئة. لكنّ تلك التسمية التي تُفضّل الصين استعمالها في خطابها الدولي، تنطوي على مواجهة مع "دول الشمال"، ولعلّ المواجهة مع الشمال المتمسّك بالنظام العالمي الذي تتفرد الولايات المتّحدة في قيادته لا يقلّ أهمّيةً وحضوراً في الخطاب الصيني عن مسألة توزيع ثمار التنمية بعدالة وتحقيق الربح المُشترَك لدول العالم كافّة.

افتتح الرئيسُ الصيني الحالي شي جين بينغ عهدَه في 2013 بالحديث عن "بناء مجتمع المصير المشترك للبشرية"، بعد شهور من تولّيه موقع الأمين العام للحزب الحاكم في أواخر 2012، ثمّ انطلق ليُعلن في العام نفسه مبادرةَ الطريق والحزام التي بدأ تطبيقها فعلياً عام 2015، الذي شهد أوّل استعراض عسكري في الصين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ما يعكس طموحات الصين للتحوّل قوَّة عظمى على الصعد كافّة بشكل يتجاوز أنّها عملاقٌ اقتصاديٌ ناجحٌ تحوّل في نحو ثلاثة عقود أعقبت إطلاق سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978، من دولةٍ فقيرةٍ إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

تدّعي الصين أنه ليس لديها نموذجٌ قيمي تسعى للتبشير به وتعميمه، سوى تحقيق الربح المُشترك، الذي يمكن للجميع الاستفادة منه

وأكثر ما تركّز عليه الصين أهمّية في خطابها عن تمثيل مصالح دول الجنوب العالمي، أنّ علاقاتها ومشاريعها واستثماراتها مع تلك الدول تفتقد إلى ما يمكن تسميته "البعد التبشيري"؛ أي الربط بين ما يُقدّم من مساعدات واستثمارات للدول المُحتاجة، ومطالبتها بإحداث تغييرات تشريعية وثقافية، أي على عكس ما تفعل دول الشمال الأميركية والأوروبية التي تربط تقديمها المساعدات والقروض للدول بالتدخّل في شؤونها الداخلية، بدعوى دعم الحرّيات وحقوق الإنسان. تدّعي الصين أنه ليس لديها نموذجٌ قيمي تسعى للتبشير به وتعميمه، سوى تحقيق الربح المُشترك، الذي يمكن للجميع الاستفادة منه عوضاً عن استئثار طرف واحد بجني الأرباح من دون الآخرين، كما في النموذج الإمبريالي، الذي ترى الصين أنّه سمةُ النظام العالمي أحادي القطبية، الذي تتمسّك به الولايات المتّحدة وحلفاؤها في الغرب.

ثمّة إذاً مواجهة أخلاقية ينطوي عليها الصراع الأميركي الصيني، تتوازى مع المواجهات السياسية والعسكرية والاقتصادية. تردّ الولايات المتّحدة، في الجانب الأخلاقي، بالتحذير من المخاطر الأمنية التي تستتبع بناءَ دول العالم علاقات اقتصادية وثيقة مع الصين، خصوصاً في جانبَي إمكانية نفاذ الصين إلى المعلومات الحسّاسة في تلك الدول، بفضل التكنولوجيا الحديثة التي تستعملها في استثماراتها ومشاريعها، ثمّ وقوع تلك الدول في ما تسمّيه الولايات المتّحدة "فخَّ الديون"، أي عدم تمكّنها من سداد القروض الصينية، ما يُؤدّي إلى وقوعها رهينةَ توجيهات الصين، وفقدانها السيطرة على اقتصادها وعلى أراضيها.

ثمّة مواجهة أخلاقية ينطوي عليها الصراع الأميركي الصيني، تتوازى مع المواجهات السياسية والعسكرية والاقتصادية

في هذا الصراع الأخلاقي، يُقدّم الطرفان نفسيهما حريصين على مصالح الدول الأخرى، وعلى أمن العالم وسلامه واستقراره، بل وعلى مستقبله وازدهاره. لكنّ التصريح بالخطط والمصالح الذاتية لا يغيب عن خطاب بكين، فهي تعلن صراحةً سعيَها للتحول إلى الاقتصاد العالمي الأكبر قبل منتصف القرن الجاري، باعتباره الجانب الذي تريده من الربح المُشترَك مع دول العالم. بمعنى أنّ الصين حين تهتمّ بالحصول على المواد الخام من دول الجنوب العالمي، وبالاتفاق معها على مدّ الطرق وتطوير الموانئ، فإنّها تسعى إلى خدمة تجارتها الخارجية بما يصبُّ في صالح تعاظم الاقتصاد الصيني، على أن تحصل تلك الدول في المُقابل على التمويل اللازم لتحسين اقتصادها، سواء تمثّل في إحداث التنمية ومواجهة الفقر والبطالة في الدول ذات الاقتصادات النامية، أو تمثّل في نقل التكنولوجيا وتطوير هيكل الاقتصاد لدى الدول ذات الاقتصادات الناشئة.

ومن جانب الولايات المتحدة، الحديث عن مصالحها الخاصّة غير متوفّر في خطابها المُعلَن. ثمّة تحذير فقط من طموحات الصين، واتهامات لها بالسعي إلى مهاجمة جيرانها عسكرياً، وجمع البيانات من دول العالم كافّة، والسيطرة على القرار السياسي والاقتصادي لتلك الدول مستقبلاً. ثمّة أيضاً جهودٌ متواصلةٌ منذ سنوات لتشويه صورة الصين في الإعلام، بالقول إنّها دولة همجية غير مسؤولة، سواء من حيث سلوكها الدولي الانتهازي أو ممارساتها القمعية مع شعبها.

هكذا، وبينما تقترح الصين على الدول أن تفيد وتستفيد، تقترح الولايات المتّحدة عليها ما يلي: ما رأيكم أن نُبقِي الحال الدولي على ما هو عليه، فذلك أفضل من المخاطرة بتغييره؟

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.