الرئيس والكاميرا
أعظم آلة اخترعها الإنسان هي العجلة، فأكمل الأشكال الهندسية هي الدائرة، الدولاب يعني الزمن والدوران، والفلك، والساعة، والمدار، ووجد كاتب السطور أنَّ اختراع الكاميرا قد أفسد حركة العجلة، وأصل الاسم من القمرة، فابن الهيثم هو الذي براها، والعجلة تدور في عدسات التصوير عكس جهة حركتها. ويرى عزمي بشارة أنّ الكاميرا عطلت حركة برلمان تونس، بولع بعض البرلمانيين بتقديم العروض التلفزيونية و"الشو"السياسي، وأظن أن الكاميرا فعلت الأفاعيل بالناس، فجعلت الممثل بطل الزمان والعصر والأوان. اعتُبر الممثل حسن التمثيل بطلًا، لأنه لا يبالي ببطش الكاميرا وسحرها، وهو يعظّمها في سرّه أحسن التعظيم. والتصوير في الإنكليزية: شونينغ، وهي من السوط كما أظنُّ، وترجمتها: الرمي، والقذف. والكاميرا نوعان: كاميرا اللقطة الثابتة التي تذكّر بعين ميدوزا الإغريقية، وكاميرا الفيديو للصورة الحية، فماذا فعلت الكاميرا بالرؤساء العرب، وكيف تجنّبوا نارها ونعموا بنورها؟
عبد الناصر بطل من زمن السماع والأذن، هو بطل إذاعي، وله صور ثابتة، وصور فيديو أقلّ، وقيل إن وسامته وقوامه الصعيدي شفعا له في دور البطل العربي مع كل هزائمه. شغفَ رؤساءٌ عرب من بعده بهوى الكاميرا والحضور والنجومية وحبِّ التمثيل. وكان صدّام حريصًا على الظهور اليومي، يؤدّي دور الفلاح والعامل والفارس، ويرقص في الساحات ويرتدي الأزياء الشعبية، حتى إنه وضع قبعة الكاوبوي مرّةً. خلب الكاوبوي ألباب الناس ردحًا من الزمان. ومن مفارقات الصور أنَّ قَتَلَتَه صوّروه على حبل المشنقة للتشفّي، فأخزاهم بموته، وقال كلمة لا يخزى قائلها.
لبس بوريس يلتسين زيَّ الكاوبوي وجعل يلهو مثل الأطفال في زيارته أميركا، وكان القذافي حريصًا على أزيائه العجيبة التي يصمّمها له أكبر مصممي الأزياء "علشان الصورة تطلع حلوة"، ويتعثّر بالأزياء الرومانية ذات العقد، وتضايقه، فيبدو كالولد الذي لبس ثياب العيد، وأزياء الصحراء فضفاضة ومريحة. أما عبد الفتاح السيسي، فهو آية زمانه في الوله بالظهور والشغف بالعدسة رماها الله بها، هو كومبارس قفز فجأة إلى دور البطل الأوحد، وكل صورة له تكشف ضعف مواهبه وقلة حيلته، وهوانه على نفسه وعلى شعبه، لكن دولةً كبيرة بعلمائها وخبرائها ودهاقنتها من ورائه تصلح أخطاءه بالتفسير والتحليل والتصفيق، فهو يشبه معوّقًا سعدت أمه بنطق كلمةٍ صحيحةٍ، فجنّت من الفرح، الرئيس بعين الدولة غزال.
يحرص الملوك على الظهور الطاهر النقي الخالي من العثرات أمام عين الكاميرا الحسود، إلا أنّ زيارة ترامب وابنته السعودية كشفت ما كان مستورًا، فرأينا الأمراء مذهولين بزيارة رئيس العالم، كأنَّ على رؤوسهم الطير، وفي رقابهم النير، يسترقون النظر إلى الحسناء إيفانكا، كأنهم لم يروا أنثى قط. وأخذني العجب من انحناء ترامب لتقلد الميدالية الذهبية من يد الملك. العربي وقور، إذا رقص فبالسيف، كأنه يستتر به من لغو الجسد الفاني، ولا يُبيح من حركة جسده إلا ما يفتي به الحسام، رقصات المتصوّفة أكثر ضجيجًا وصخبًا من رقصة العربي ابن البادية الصارمة. السيف للكاميرا وللعاهر الحجر.
لم يُحسن ملاعبة الكاميرا من الزعماء العرب الحواة ما أحسنه حافظ الأسد، فقد أحبّ أن يكون مخرجًا ومنتجًا، بثَّ صوره الثابتة في كل زاوية من سورية، لكنه كان بخيلا على الفيديو، فللأديان والمذاهب أثرها في تكوين الناس. وقد عجبت مرّة لهيئته في زيارة إلى موسكو، وقد ارتدى قبعة تقي قحفته من البرد، فهي صورةٌ غير معهودة للزعيم الصنم، وعجبت من صورةٍ أخرى له رسمها فنان، وهو يرتدي الزيَّ العربي، سمحت المخابرات بعرضها، عباءة وشماغ وعقال، زي البدو المنكر لدى النظام. وسمحت المخابرات بصورة أخرى مرسومة بالريشة والبرثن، وهو يقبّل يد أمه وحول رأسها هالة القدّيسين. لقد أوقف حافظ الأسد العجلة، فتحجّرت سورية في صورة ثابتة. يمكن أن نتذكّر صورة لعبد الملك بن مروان، المؤسّس الثاني للدولة الأموية، والأمويون أسّسوا دولتين وحضارتين توأمتين، واحدة في المشرق العربي، والأخرى في المغرب الأوروبي، ليس لهما مثيل، وقد سئل: عجّل عليك الشيب، يا أمير المؤمنين! قال: "وكيف لا يعجل عليّ وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين".
رؤساؤنا سود الشعر وهم في التسعين، أما عقولهم فينطق بها حال شعوبهم.