الذباب الإلكتروني صُنع في الإمارات
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.
نجحت قمة العلا في طي صفحة أزمة الخليج وإنهاء الحصار على قطر. في جوهرها، ظلت مصالحة سعودية قطرية، ولم تكن بالمستوى نفسه مع باقي رباعي الحصار. اقتربت مصر، بمرور الوقت، من الموقف السعودي، وحصلت لقاءاتٌ على مستوى القادة والوزراء، لكن الإمارات والبحرين ظلّتا أبعد عن روح المصالحة، رغم التزامهما العلني. وفي الظل، لم تتوقف المكايدات الإماراتية من خلال شبكات الذباب الإلكتروني. وفي العلن، واصلت البحرين مناكفاتها من خلال إعلامها الذي يعتبر الزبارة بحرينية، وترويج المناكفات عن طريق الإعلانات المدفوعة في منصّات التواصل في قطر.
أكثر ما يظهر استهداف قطر في "الإعلان الترويجي" الذي يسهُل رصدُه وقياسه، فبحسب دراسة لسوق الإعلان، اعتمدت على الأرقام الرسمية لـ"تويتر"، ظهر أن الإمارات هي المعلن الأول في قطر. وهذا، طبعا، في ما خصّ سياساتها المعلنة من خلال المؤسسات الإعلامية العلنية. الأكثر خطورة الحملات السرّية المنظمّة المنسقة على منصّات التواصل من خلال شبكات الذباب الإلكتروني، وقد اتضح ذلك إبّان انتخابات مجلس الشوري القطري، وأكّدته القرارات التي أصدرها القضاء القطري. وتواصلت الحملات بشكلٍ يستهدف الوضع الداخلي في قطر، والتحريض المباشر على العائلة الحاكمة، بإطلاق وسومٍ تنال من شقيقة الأمير وشقيقه. قبل ذلك، كشفت منصة "إيكاد"، الرائدة عربيا في التحقق واستخبارات المصادر المفتوحة، شبكة يقودها السوري المقيم في الإمارات محمد داغستاني، الذي يرأس المنصّات في موقع إرم الإماراتي، ولم تكن هذه أول شبكة، فقد كشف "فيسبوك"، و"تويتر" قبلها، شبكاتٍ، واكتشاف واحدةٍ منها لا يعني أنها الوحيدة.
كشف الباحث المتخصّص في مطاردة شبكات الذباب الإلكتروني مارك جونز أن الوسوم الثلاثة التي استهدفت، أخيرا، الشيخة المياسة والشيخ جوعان مفتعلة. وبالرغم من تصدّرها قائمة الأكثر تفاعلاً داخل قطر، إلا أن وصولها ضئيل لأنها وهمية. كان معظم التفاعل إعادة تغريد (تضخيم). ومعظم التفاعل على موقع الويب على الوسم كان موقع Twitter Web App، وهي خاصّة تتميز بها لجان الذباب. وانقسم التفاعل إلى مجموعتين: حسابات مركزية تدّعي أنها قطرية، كانت ضمن لجان إلكترونية تدخلت سابقا في الشأن الكويتي، وحسابات وهمية تابعة للجان إباحية ولجان تنشر محتوىً متعلقا بالشأن الكويتي، مضخّمة للحسابات المركزية التي نشرت الوسوم الثلاثة.
تسعى هذه الشبكات إلى اختراق الرأي العام القطري، لتقوده لاحقا أو التشويش عليه بالحدّ الأدنى. لا تصادم تلك الحسابات المزاج القطري المحافظ. على العكس، تزاود عليه، وخصوصا ما تعلق بكأس العالم. وهنا تلعب لعبةً رابحةً على جميع الأحوال، فإن اتخذت الدولة قراراتٍ أقرب إلى المحافظة في ما خصّ مواضيع الخمور والمثليين، يُزاوَد عليها بالمنظمات الحقوقية. وإن فعلت العكس، زاودوا عليها بالدين والعادات والتقاليد. وإن ارتقت بمعايير الإقامة وقوانين العمل استفزّت الغرائز العنصرية ضد الوافدين. وإن تشدّدت مع العمالة استنفرت المنظمات الحقوقية .. وهكذا.
لم تمسّ قطر، حتى في ذروة الأزمة الخليجية، العائلات الحاكمة. ولكن استهداف قطر في تماسكها الداخلي ووحدتها الوطنية والعائلة الحاكمة يتكرّر بعد صلح العلا. والسؤال: هل هذا الاستهداف رسالة إلى قطر لتعديل السلوك السياسي؟ وفي أي سياسة؟ في ما خصّ تركيا، تُسابق الإمارات قطر عليها، والشراكة الاقتصادية مع إيران لم تتضرّر، حتى بعد أن ضرب الحوثي أبوظبي، ولا تقارن بعلاقة قطر الاقتصادية بها، وفوق ذلك تزاود الإمارات باحتضانها بشار الأسد طفل إيران المدلل، واستقبالها له خلافا للإجماع العربي. أما حركة طالبان، فقد سارعت أبوظبي إلى التواصل معها بعد أن كانت في حربٍ معها. لا يوجد تطابقٌ في سياسات الدول، وقمّة العلا قامت على التوافق لا التطابق، فلكل دولةٍ سياساتها الداخلية والخارجية المستقلة، والاختلاف فيهما لا يمنع من التوافق بناءً على المشترك في السياسات والمواقف والمصالح، فالإمارات تحالفت استراتيجيا مع إسرائيل في الاتفاقات الإبراهيمية، بمعزلٍ عن الموقف العربي عامة، والخليجي بخاصة. ولكل دولةٍ خليجيةٍ منظورُها الخاص للتعامل مع الصراع العربي الصهيوني.
تُطرح الخلافات السياسية في الإعلام، أو من خلال الحوار المباشر بدون الحروب بالوكالة من خلال شبكات الذباب الإلكتروني، وهي أسوأ ما أنتجته الأزمة الخليجية. مجرّد وجود تلك الشبكات يعني أن لا علاقة للأمر بخلافٍ سياسيٍّ يحلّ بالحوار بقدر ما هو اعتداء للنّيْل من البلد والعبث باستقراره. والحل ليس بالمواعظ ولا بالأهازيج التي تتغنّى بالأخوة العربية والخليجية، وإنما بالالتزام بما تم التوافق عليه في قمة العلا.
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.