الذاكرة تلاحقني في ركن المقهى
تُدهشني الذاكرة البصرية، وتجعلني قريبا جدا من الله وقليلا أيضا، ومتعجّبا من هول عمل المخّ البشري وعبقريته ودهاليز غرفه الغامضة في لحظة واحدة، بعد سنواتٍ طويلةٍ من غيبة شخص ما عنا، وكنا قد نسيناه تماما، وما تذكّرناه أبدا في أي لحظة.
مخزون الذاكرة المنسي، أين كان وكيف تجلّى، تلك الصور التي تواصل حضورها، وكأنها تواصل ولادتها من المخّ بطزاجة مبهرة، رغم شبه موتها من سنوات؛ أرشيفٌ غامضٌ من ملايين أفلام وصور وحكايات ومواقف، ظننتها ماتت، فإذا بحضورها المباغت يأتيني، كي يشهدني معجزة هذا المخّ البشري الذي ظننت أنه كان ميتا من لحظات.
سنوات بناسها وأماكنها وأحزانها وأفراحها تأتيني فجأة وأنا جالسٌ في المقهى كي تقول لي: أنت تعيش هنا برحمة ما تتذكّره، وهذا فضلٌ غامضٌ من الله عليك، لا تحصي نعمه ولا تستطيع، فهذا شخصٌ لم أره من أربعين سنة يمرّ فجأة، ولم يمرّ بذاكرتي أبدا قبل ذلك ولو طيفا، فإذا بشعره الشائب، والذي سقط أغلبه، يكتمل كله من أرشيف ذاكرتي، بل ويلمع ويهفهف أيضا، فأراه من أربعين سنة واقفا على محطّة السكّة الحديد شابا يافعا، معجبا ببناء عضلاته بالبنطلون الشارلستون رغم نظارته الطبية، رغم أنه الآن قد صار هشّا جدا، ويتوكأ على عصاته، وقد لفّ شالا حول رقبته التي صارت رفيعة، ولكن حينما وقف والتفت إلى الوراء بصعوبة، لا أعرف لماذا، إذا بنباهته تأتيني بالبهاء القديم نفسه، أو بنور من ذلك البهاء القديم وقد شع فيّ أنا فجأة من صلب ذاكرتي ووقفته معا. وإذا بالمشهد كله يكتمل من الماضي، وقطار يصل، وبنات معهن الحقائب والكتب فوق كوبري المحطّة في طريقهن إلى القطار للوصول إلى الجامعة مع ذهب أول الشمس في الأعمار التي انقضت، وشخص بنظارة وعلى يده بالطو أبيض بكلية الزراعة، يقف في نشوة الشمس حيران بذهب الشمس وروائح كلام البنات ونشوة وصول القطار، وكأن في صدره كان هنالك كلام وحكايات محبوسة أو وصلت إلى صاحبتها.
كان دائما يحدّق في فتاة بسيطة وأخّاذة من عينيها، من بني مزار، ويظلّ يمشي في عربتين بالقطار شبه مرتبك وملهوف، حتى يقف على مقربةٍ من وقفتها والبالطو على يده بالكشاكيل، كانت باللباس الأزرق تبدو جميلة وبسيطة وتبتسم حتى للاشيء، حتى وهي وحيدة، وترمي نظرها إلى الزرع والنخيل خارج شبّاك القطار، وهو يحدّق من بعيد، ويعدل في وضع البالطو على يده، ويعدّل من تثبيت وضع النظارة، محافظا قدر الإمكان على لهفته عليها. كانت شفتها السفلى جميلة في حنانها، خصوصا وهي تبتسم وتفسح مكانا لزميلتها التي ركبت من محطّة صفط اللبن، وتصير أكثر سعادة بها، وهو يحاول في النظّارة وتغيير وضع البالطو على يديه، حتى نتفرّق على محطة المنيا جميعا، علّها كانت تدرُس التمريض هي وصديقتها.
من المقهى، الآن، يغيب هو في الشارع تماما، مرّت دقائق قليلة، وإذا به يدخل المقهى ومعه جريدة، يخرج نظارة أخرى من جيب جلبابه ويفرد الجريدة على الطاولة باهتمام، ويظل يتابع العناوين من دون أن يطلب شيئا. وهنا تأكدت منه تماما، وهنا تأتيني بدلتها الزرقاء كاملة وشفتها السفلى وقميصها الأصفر الذي كانت ترتديه دائما تحت زيّ المدرسة، وهو يراعي دائما أن يكون قريبا من كتفها وهي نازلة محطة المنيا، من دون أن يلامس كتفها أبدا، ومن دون أن يكون بعيدا عنها أيضا، كانت صديقتها وكأنها تحسّ بوجوده وكأنها كانت تخبرها همسا لها بحضوره، أو قربه، أو بعده، كانت مثل سرّها، كانت لها بمثابة شفتها السفلى، على الرغم من أنها كانت أكثر طولا منها.
بعد وقتٍ ليس بالقليل، طلب الشاي وتابع الجريدة بهمّة أقلّ، كان يتصرّف وكأنه يعرف المكان من قبل، وكان الجلباب وكأنه لا يليق برجل جاوز الستين. وكان، من قبل، مفتول العضلات، وكان يلبس الشارلستون، ولا كان هو ذلك الذي يتابع فتاه بكل هذا الوله والإعجاب، كان كمن نسي ماضيه تماما، ولم يعد يذكره ولا حتى يريد، حتى دفع الحساب ومشى، وجاءتني باقي السنوات بأفلامها سنوات، كنت كمن يريد أن يقول له: "تمهل"، ولكني كنتُ لا أستطيع ولا حتى أريد، فقد شالتني الذاكرة إلى أشياء أخرى وعربات أخرى في قطاراتٍ لم أعد أشوفها ولا أنتظرها.