الديمقراطية والحركة الاحتجاجية في إسرائيل ... الكتلة الاجتماعية والدولة العميقة
شهد الاحتلال الصهيوني سلسلةً من التحرّكات الاحتجاجية الداخلية، على خلفية توجهات حكومة بنيامين نتنياهو الداخلية، وبالتحديد في ما يتعلق بخطّة التعديلات في مؤسسات القضاء. أخذت الحركة الاحتجاجية بعداً جديداً بعد إقالته وزير الأمن/ الدفاع؛ يوآف غالانت، عقب تصريحات الأخير المطالبة بتجميد الخطة، من أجل فتح الباب أمام إمكانية التوصل إلى تسويةٍ مع المعارضة السياسية بخصوصها.
على خلفية تصاعد الحركة الاحتجاجية، أخيرا، وبالتحديد مساء يوم الأحد 26/3/2023، كثر الحديث في المواقع والمراكز الإعلامية وفي مواقع التواصل الاجتماعي الناطقة بالعربية عن ديمقراطية مؤسّسات الاحتلال الصهيوني، التي لم تقمع الحركة الاحتجاجية، عبر العنف السلطوي، كما شهدنا في غالبية دول المنطقة العربية، وكما نشهد في دول عديدة، يمكن اعتبار فرنسا منا، مع الانتباه إلى الفرق الكبير في منسوب العنف السلطوي الممارس في دول منطقتنا العربية وفي دول العالم المتحضر إجمالاً، وفرنسا تحديداً. لذا سوف تعالج هذه المطالعة هذه المسألة بشيء من التفصيل، كما ستعالج طبيعة أزمة الاحتلال الراهنة وطبيعتها وتداعياتها على الاحتلال، التي تنعكس على الفلسطينيين تلقائياً.
الدولة العميقة
يطلق مصطلح الدولة العميقة أو حكومة الظل أو الدولة الموازية على "مجموعة القوى التي تعمل في الخفاء لإدارة الدولة وتحديد استراتيجيتها وسياساتها الداخلية"، عادة ما تتكوّن هذه المجموعة من مراكز فاعلة عسكرية وأمنية واقتصادية وإعلامية وسياسية، يتراوح وزنها بين دولة (أو كيان) إلى أخرى.
بات استخدام المصطلح رائجاً إعلامياً وسياسياً وأحياناً أكاديمياً في العقدين الأخيرين لوصف القوى غير المرئية المتحكّمة في إدارة الدول، سواء كانت دول العالم المتقدّم أو الدول النامية، مع التأكيد على كثافة استخدامه في توصيف النظم في دول العالم الثالث والدول الاستبدادية، لوصف دور المكونين العسكري والأمني تحديداً. فعلى سبيل المثال، استخدم المصطلح بكثرة في فترة ولاية الرئيس الأميركي ترامب الرئاسية (استخدمه ترامب شخصياً)، من 2017 إلى 2021، للإشارة إلى إعاقة بعض؛ نسبياً كثير، سياسات ترامب الداخلية والخارجية، من دوائر فاعلة ومؤثرة داخل مجمل المؤسسات الأميركية، سياسية وعسكرية وأمنية وإعلامية واقتصادية.
تتكوّن الدولة العميقة الصهيونية من قوى فاعلة ومؤثرة في المؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية الصهيونية
بحكم طبيعة الكيان الاحتلالي الكولونيالي الإحلالي القائم على أرض فلسطين، يعتقد الكاتب أن الدولة العميقة الصهيونية مجموعة مركّبة ومعقدة من القوى الداخلية والخارجية، التي تحدّد طبيعة الكيان وأدواره ومهامه، الأمر الذي يعكس طبيعة الاحتلال الكولونيالي والإحلالي من جهة، ودور الكيان في خدمة النظام الرأسمالي العالمي، والقوى الإمبريالية المسيطرة، خصوصاً المصالح الأميركية في المنطقة من جهة أخرى، إذ تتكوّن الدولة العميقة الصهيونية من قوى فاعلة ومؤثرة في المؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية الصهيونية، إلى جانب قوى فاعلة في الوكالة اليهودية والدولة العميقة الأميركية، وربما غير الأميركية أيضاً، خصوصاً البريطانية. لكن ونظراً إلى استحالة تحديد ماهية القوى الناظمة والمتّحدة والفاعلية في تحديد مسار الاحتلال الصهيوني وأدواره؛ الدولة العميقة الصهيونية، يمكننا العودة إلى تعريف الدولة العميقة العام مؤقتاً، على اعتبارها مجموعة من القوى الفاعلة والمؤثرة في المؤسسات السياسية والاقتصادية والإعلامية والعسكرية والأمنية الوطنية، بعيداً عن تعقيدات الاحتلال الناتجة عن طبيعته ودوره ونشأته.
تحذّر عشرات الدراسات والتصريحات الصادرة عن أطر ومؤسسات صهيونية، رسمية وشبه رسمية، من مخاطر مخطّطات حكومة نتنياهو الائتلافية الداخلية وتداعياتها؛ تحديداً خطة التعديلات القضائية، من الرئيس الصهيوني؛ إسحاق هرتسوغ، إلى مراكز الأبحاث الأمنية والعسكرية، مروراً بمنظمات المجتمع المدني وشركات ومستثمرين وهيئات استثمارية اقتصادية، خصوصاً في مجال الهايتك، وصولاً إلى تصريحات أبراهام فوكسمان، رئيس جمعية مراقبة معاداة السامية في أميركا، التي قال فيها "إذا حصل سموتريتش وبن غفير على ما يريدان، فستخسرني إسرائيل وكل يهود الولايات المتحدة".
كما وصفت رئيسة المحكمة العليا الصهيونية؛ إستر حيوت، مشروع إصلاح السلطة القضائية قائلةً "تغيير هوية إسرائيل الديمقراطية بشكل جوهري". وقالت الحقوقيّة الدستورية الصهيونية سوزي نَفوت إن "فقرة التغلب وإلغاء حجة المعقوليّة، وقانون المستشارين القضائيّين وبقية بنود الخطة تُنذر بموت الدولاتيّة وتمهّد الطريق للفساد الحكوميّ وانتهاك حقوق المواطن". فضلاً عن تصريحات وزير الدفاع ورئيس الأركان، اللذين عبّرا عن مخاوفهما من تداعيات خطة "الإصلاحات القضائية" على تماسك المؤسّستين؛ العسكرية والأمنية، ووحدتهما، محذّرين من خطر تفكّكهما. تعبّر كل هذه المؤشّرات بدقة عن توجهات الدولة العميقة المعترضة على توجهات حكومة نتنياهو الائتلافية في ما يتعلق بالسياسات الداخلية، وبالتحديد من مشروع إصلاح القضاء.
تمارس أجهزة الأمن والشرطة الصهيونية قمعاً مستمرّاً تجاه فلسطينيي 48، كما حصل تجاه المتظاهرين والمحتجين في أثناء هبّة الكرامة في العام 2021
سيطرة الحكومة على المؤسّسات الأمنية والعسكرية
تتولّى حكومة الاحتلال مهام السلطة التنفيذية، من حيث إدارة شؤون الحياة الداخلية اليومية، التي تشمل المسائل الأمنية، لكن التدقيق في مسار التطورات الداخلية الصهيونية يفيد بمنحى مختلف قليلاً هذه المرّة، إذ عبر رئيس الحكومة، نتنياهو، في مناسباتٍ عدةٍ عن خروج المؤسّسات الأمنية والعسكرية عن توجهات حكومته وقراراتها، خصوصاً في ما يتعلق باحتجاجات كتلة الاحتلال الاجتماعية على خطة التعديلات القضائية، إذ نقلت وسائل إعلام صهيونية عن نتنياهو قوله في 19/3/2023؛ أي قبل تصاعد الحركة الاحتجاجية مساء الأحد، "دعا نتنياهو قادة أجهزة الأمن إلى اتخاذ موقف أكثر حزماً ضد المتظاهرين"، كذلك دعا رئيس أركان جيش الاحتلال، هرتسي هليفي، إلى" محاربة ظاهرة العصيان"، مضيفاً: "لا مكان لرفض الخدمة في الخطاب العام". ولوحظ عكس ذلك تماماً، إذ لم تبادر المؤسّستان العسكرية والأمنية إلى ملاحقة أي من أعضائها؛ من صفوف الاحتياط أو الخدمة العادية، ممن امتنعوا عن الالتحاق بدورات الاحتياط أو من أعلنوا العصيان أو هدّدوا به، كما في حالة الفيديو الذي انتشر في 25 الشهر الماضي (مارس/ آذار) لـ17 جندياً صهيونياً نظامياً، للتعبير عن اعتراضهم على خطة الحكومة للتعديلات القضائية، الذي تضمن قول أحدهم "نحن لسنا مثل جنود الاحتياط وليس لدينا موقف برفض الخدمة العسكرية ... مع ذلك رأينا أن بلدنا الديمقراطي الذي أقسمنا على حمايته خلال خدمتنا العسكرية، يتغيّر بالنسبة لنا في منتصف خدمتنا، ولا يبدو من المعقول بالنسبة لنا أن نتجاوز ذلك بهدوء، من دون فعل أي شيء".
كذلك أعاد رئيس الحكومة الصهيونية ذات التوجيهات القمعية بعد موجة الاحتجاجات أخيرا، التي أعقبت الإعلان عن إقالة وزير الأمن/ الدفاع يوآف غالانت، من دون أن تلقّي أي استجابة من المؤسستين العسكرية والأمنية، رغم تصاعد الحركة الاحتجاجية وانضمام نقابات مهنية ومؤسّسات تعليمية وقطاعات اقتصادية لها، عبر المشاركة الميدانية أو تعليق الدوام، أو غيرها من وسائل الاحتجاج، فضلاً عن تصاعد ظاهرة العصيان ضمن المؤسّستين العسكرية والأمنية، وإن تركزت في صفوف الاحتياط والمتطوعين. الأمر الذي يوحي بعدم سيطرة حكومة نتنياهو على المؤسستين العسكرية والأمنية، اللتين تمارسان دوريهما (دعمهما الاحتجاجات) بمعزل عن توجيهات الحكومة، في ما يتعلق بالشأن الداخلي.
القمع الموجّه والممنهج
تمارس أجهزة الأمن والشرطة الصهيونية قمعاً مستمراً تجاه فلسطينيي 48، كما حصل تجاه المتظاهرين والمحتجين في أثناء هبة الكرامة في العام 2021، التي أسفرت عن إصابات عديدة في صفوف المتظاهرين، تسبّبت في إعاقات دائمة لبعضهم. كما أدّت إلى استشهاد الطالب محمد كيوان، البالغ 17 عاماً حينها، نتيجة إصابته برصاص قوات الاحتلال في رأسه، كما غضّت قوات الاحتلال الطرف عن اعتداءات المستوطنين على المدن والبلدات العربية في الأراضي المحتلة عام 1948، التي شهدت احتجاجات ومظاهرات فلسطينية ضمن الهبّة، أبرزها مدينة اللد، حيث خرّب المستوطنون ممتلكات أهالي البلدة ومركباتهم، كما قتل المستوطنون الشاب موسى خالد حسونة. كذلك اعتلت قناصة الاحتلال أسطح المنازل في عكا؛ البلدة القديمة، مطلقين النار على المحتجين الفلسطينيين. إضافةً إلى اعتقال قوات الاحتلال قرابة الـ 5000 فلسطيني أثناء الهبّة، من مختلف المدن والبلدات المحتلة عام 1948، ما زالت محاكم المئات منهم مستمرّة، بتهم تتراوح بين الاعتداء على قوات الشرطة، ورمي الحجارة، والاعتداء على الممتلكات العامة، فضلاً عن الاعتداء على أتباع الديانة اليهودية، إذ تراوحت الأحكام الصادرة بحقهم بين شهر و10 أعوام.
شهدت المنطقة العربية في العقد الأخير موجاتٍ ثوريةً عدةً، رافقتها مظاهر قمعية سلطوية عدّة، ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية
كما مارست قوات الاحتلال ممارسات قمعية تجاه حركات احتجاجية نظّمتها فئات محدّدة من أتباع الديانة اليهودية، مثل احتجاجات الإثيوبيين في 2019، والاحتجاجات على حكومة نتنياهو الخامسة في 2020، لكن لم تبلغ مستويات القمع السلطوية في هاتين الحالتين ذات المستويات التي شهدتها هبّة الكرامة والاحتجاجات التي ينظمها فلسطينيو 48 عامةً.
مستويات متباينة من القمع
شهدت المنطقة العربية في العقد الأخير موجاتٍ ثوريةً عدةً، رافقتها مظاهر قمعية سلطوية عدّة، ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، إذ أدّت، في حالاتٍ كثيرةٍ، إلى سقوط قتلى وجرى بأعدادٍ كبيرةٍ، سيما في سورية واليمن والبحرين وليبيا ومصر. وسارع بعضهم إلى مقارنة تعامل قوات الاحتلال مع الحركة أو الحركات الاحتجاجية داخل الأراضي المحتلة في العام 1948 وبين التي شهدتها دول المنطقة العربية، معتقدين أنها دليل على ديمقراطية الاحتلال الصهيوني أولاً، ورسوخ النظام الديمقراطي الصهيوني ثانياً، وفاعلية مؤسسات الاحتلال السياسية ثالثاً، وحيوية كتلته الاجتماعية رابعاً. تجانب هذه الاستنتاجات الحقيقة في مواضعٍ كثيرةٍ، نظراً لانطلاقها من مقارنة غير متكافئة ولا متشابهة، كما سوف تبين السطور التالية.
يمكن من التدقيق في علاقة الكتل الاجتماعية بدولها وحكوماتها ملاحظة نوعين من الاحتجاجات: تعبّر الأولى عن احتجاجات مطلبية الطابع، لا تستهدف بنية النظام أو الدولة العميقة في مرحلتها الأولى بالحدّ الأدنى، في حين تعبّر الثانية عن انتفاضات ثورية عارمة؛ عفوية أو منظّمة، تعبر عن فقدان ثقة الكتلة الاجتماعية بمجمل مؤسّسات النظام ودوائره ومؤسّساته وأحزابه وقواه، الأمر الذي يضعها في مواجهة مباشرة وحتمية مع الدولة العميقة. تنتمي الموجات الثورية في المنطقة العربية منذ نهاية العام 2010 إلى النوع الثاني من الحركات الاحتجاجية، في حين تنتمي غالبية الاحتجاجات التي ينظمها أتباع الديانة اليهودية في الأراضي المحتلة عام 1948 إلى النوع الأول، في حين تعبّر غالبية احتجاجات فلسطينيي 48 عن النوع الثاني، وهو ما يوضح التباين في مستويات قمع الاحتلال بين الاحتجاجات أخيرا وتلك التي ينظمها فلسطينيو 48، مع الانتباه إلى تصاعد مستويات العنف السلطوية طردياً مع امتداد الحركات الاحتجاجية أفقياً وعمودياً، أي على مستويي المشاركة الشعبية والانتشار الجغرافي.
تدعم الدولة العميقة الصهيونية احتجاجات أتباع الدولة اليهودية على سياسات حكومة نتنياهو الائتلافية الراهنة
بعد التمييز بين الاحتجاجات المطلبية والثورية، لا بد من التمييز كذلك بين الاحتجاجات المحبّبة والمرفوضة من قبل الدولة العميقة، إذ تلجأ النظم والحكومات الرسمية وحكومات الظل؛ الدولة العميقة، إلى دعم بعض الحركات الاحتجاجية لحسابات سياسية داخلية أو خارجية، كما في دعم إدارة ترامب لاحتجاجات مؤيديه في مرحلة رئاسته على بعض القوانين التي عارض الحزب الديمقراطي إقرارها، أو على قرارات أعلنها حكام الولايات الديمقراطية، خصوصاً القرارات المتعلقة بتبعات فيروس كورونا مثل إلزامية ارتداء الكمامة وتعليق الدوام وعمل بعض المؤسسات أو كلها. كما يمكن اعتبار ثورة المصريين في العام 2013، على حكومة الإخوان المسلمين من الاحتجاجات أو الثورة المحببة للدولة المصرية العميقة، التي دعمتها إعلامياً واقتصادياً وسياسياً أمنياً بدايةً، ثم استغلتها لاستعادة سيطرة الدولة العميقة المصرية على الحكم والدولة، لذا لم تجابَه الاحتجاجات التي طاولت حكومة الرئيس المصري الراحل محمد مرسي بأيٍّ من مظاهر القمع، على عكس المظاهرات والاعتصامات المؤيدة لحكومة مرسي، التي قابلتها مؤسّسات الدولة العميقة الأمنية والعسكرية بممارساتٍ قمعيةٍ وإجرامية كبرى. كذلك نجد في تونس نموذجاً للاحتجاجات المحبّبة، في المرحلة التي أعقبت تولي الرئيس التونس الحالي؛ قيس سعيّد، مهامه، التي استهدفت القوى الفاعلة في البرلمان، أي التي عارضها الرئيس، وفي مقدمتها حركة النهضة. وأخيراً تدعم بعض الحكومات تنظيم حركات احتجاجية سياسية بغرض تحسين موقع الحكومة التفاوضي مع المجتمع الدولي، كما في سورية وإيران وكوريا الشمالية ودول عديدة استبدادية وأحياناً ديمقراطية.
أي لا توثق الجهات المعنية بتوثيق الانتهاكات ممارسات قمعية وازنة وعديدة في الاحتجاجات المحبّبة للدولة العميقة، على العكس تماماً من الاحتجاجات المرفوضة، حتى في الدول الديمقراطية، كما في احتجاجات "حياة السود مهمة" في الولايات المتحدة، واحتجاجات "السترات الصفراء" في فرنسا، والاحتجاجات التي تشهدها فرنسا اليوم اعتراضاً على رفع سن التقاعد، وبالتأكيد في الموجات الثورية التي شهدتها دول المنطقة العربية منذ نهاية العام 2010.
بالعودة إلى الاحتلال الصهيوني، نلحظ دعم الدولة العميقة الصهيونية احتجاجات أتباع الدولة اليهودية على سياسات حكومة نتنياهو الائتلافية الراهنة، من خلال الدعم الإعلامي والاقتصادي والأمني والسياسي، الذي يرقى إلى مستويات تقارب المشاركة في تنظيمها أيضاً، وهو ما يوضح أحد أهم أسباب محدودية الممارسات القمعية تجاهها، بعيداً عن أوهام وصف احتلال كالونيالي احلالي يمارس تطهيراً عرقياً وفصلاً عنصرياً وتهجيراً قسرياً بحقّ سكان فلسطين الأصليين بالديمقراطي!
نجحت الدولة العميقة؛ كذلك المحتجون من أتباع الديانة اليهودية، في منع الحكومة من إقرار خطة التعديلات القضائية
من الأزمة السياسية إلى الأزمة البنيوية
هل تؤثر الأزمة على تماسك مؤسّسات الاحتلال وديمومتها؟ للإجابة لا بد من التدقيق في منحى التطورات؛ نالت حكومة نتنياهو ثقة الكنيست بعد حصولها على تأييد 63 نائباً، ينتمون إلى أحزاب الحكومة الائتلافية، وهم النواب المتوقع تأييدهم خطة التعديلات في مؤسسات القضاء، الأمر الذي أوحى بأن إقرار الخطة في الكنيست مسألة وقت لا أكثر، لكن؛ قبل موجة الاحتجاجات خرج وزير الدفاع/ الأمن الصهيوني وعضو حزب الليكود؛ يوآف غالانت، عن إجماع الائتلاف الحكومي، داعياً نتنياهو إلى تعليق الخطّة حتى التوصل إلى تسوية سياسية مع أقطاب المعارضة، ما مثل أول مظاهر تضعضع الغالبية البرلمانية، أو أول مظاهر نجاح الدولة العميقة في تطويق خطط الحكومة الائتلافية، انضمّ إلى اعتراض وزير الأمن كل من وزير الاقتصاد نير بركات ونائبي الليكود ديفيد بيتان ويولي إدلشتاين، ليخسر الائتلاف الحكومي أصوات أربعة نواب في الكنيست، ما يعني خسارته الغالبية البرلمانية، التي تؤدّي إلى فشل الحكومة في تمرير الخطة من دون التوافق مع أحزاب المعارضة أو جزء منها.
نتيجة ذلك؛ يمكن القول إن الدولة العميقة؛ كذلك المحتجون من أتباع الديانة اليهودية، نجحت في منع الحكومة من إقرار خطة التعديلات القضائية، لذا حاول نتنياهو وحزب الليكود ثني الوزيرين والنائبين عن رفضهم المصادقة على الخطة في الكنيست، من خلال تهديدهم بخسارة مواقعهم الحزبية مستقبلاً، لكن هذه المحاولات لم تفلح. ونتيجة ذلك، علق نتنياهو خطة التعديلات مؤقتاً، حتى الدورة البرلمانية المقبلة بعد عطلة الأعياد، في قرارٍ توافقيٍ بين جميع مكوّنات حكومته، كان ثمنه منح بن غفير الموافقة على إنشاء "الحرس الوطني" تحت سلطاته وزيراً للأمن القومي. توحي هذه التطورات مبدئياً بنجاح الدولة العميقة في تطويع الحكومة الائتلافية، وبالتالي، هناك إمكانية لطوي صفحة الأزمة السياسية الصهيونية عبر توافق الأحزاب الصهيونية السياسية على خطّة معدّلة، ما يعني الحدّ من تداعيات الأزمة إلى حدودها الدنيا في الوقت الراهن، وبما يفتح الباب أمام عودة الصراع مستقبلاً إن استمر صعود قوة تيار الصهيونية الدينية وجحمه.
قمع احتجاجات أنصار الحكومة الائتلافية من المؤسسات الصهيونية السيادية سوف يؤدّي لا محالة إلى ظاهرة العصيان العسكري المضاد
في مسارٍ موازٍ؛ حذّرت أصوات عديدة من تداعيات إقرار خطّة التعديلات الدستورية على وحدة مؤسّسات الاحتلال العسكرية والأمنية، لكن فرص حدوث هذه المخاطر تبدو في الوقت الراهن قليلة، في ظل نجاح الدولة العميقة في تطويع الحكومة الائتلافية، وربما تفكيكها قريباً. لكن هذه الاحتمالية سوف تتصاعد في حال تعنّت مكوّنات الحكومة الائتلافية، خصوصاً إن نقلوا معركتهم مع الدولة الصهيونية العميقة من إطارها السياسي إلى الشارع، بما يوصف بـ "شارع مقابل شارع"، إذ تملك الحكومة الائتلافية حاضنة اجتماعية قوية لا يمكن الاستهانة بها، خصوصاً في وسط المستوطنين، كذلك داخل المؤسّستين العسكرية والأمنية، الأمر الذي ينذر بقدرتها على تنظيم احتجاجات ميدانية عقائدية استناداً إلى أيديولوجيا دينية متزمتة، الأمر الذي قد تواجهه المؤسسات السيادية الصهيونية بقمعٍ منظمٍ وعنيفٍ وبجميع الوسائل الممكنة. نظراً إلى تعارض مسار هذه الاحتجاجات مع توجّهات الدولة العميقة المسيطرة حتى اللحظة على قيادة ومسار المؤسّسات السيادية.
قمع احتجاجات أنصار الحكومة الائتلافية من المؤسسات الصهيونية السيادية سوف يؤدّي لا محالة إلى ظاهرة العصيان العسكري المضاد، في أوساط داعمي الحكومة الائتلافية داخل المؤسّستين العسكرية والأمنية، بل قد يدفعهم إلى مواجهة قياداتهما، الأمر الذي يقود إلى تفكّكهما عملياً، ويحول الأزمة الصهيونية من أزمة سياسية إلى أزمة بنيوية، تحمل في طياتها مخاطر؛ من وجهة نظر صهيونية، تفكك جميع مؤسّسات الاحتلال، أو على الأقل تضعضعها.
الخلاصة
لا يصحّ التسرّع في إطلاق الاستنتاجات القطعية اليوم، من قبيل الإشادة بديمقراطية الاحتلال، من دون الأخذ بعين الاعتبار توافق مسار الحركة الاحتجاجية الراهنة مع توجّهات الدولة العميقة، ومن دون التدقيق في سلوك مؤسسات الاحتلال القمعية تجاه الاحتجاجات التي تتناقض مع مسارها، كما في احتجاجات فلسطينيي 48، وهبّة الكرامة خصوصا. كذلك من المبكّر اليوم الحديث عن أزمة بنيوية تعصف بالاحتلال، إذ يمر الاحتلال اليوم بأزمة سياسية عميقة، تحمل في طياتها بوادر تحوّلها إلى أزمة بنيوية، لكنها لم تعبرها، فالأزمات السياسية أمر طبيعي ووارد الحدوث في أي دولة أو كيان أو مجموعة أو حزب، في حين أن تحوّل الأزمات السياسية إلى أزمات بنيوية أمرٌ غير حتمي، يتطلب شروطاً وظروفاً خاصة، يبدو بعضها متوفّرا في المرحلة الصهيونية والعالمية الراهنة، بما يجعل تحوّلها أمراً وارد الحدوث وغير حتمي.