"الخائن" واستهبال المتلقّي

04 مارس 2024
+ الخط -

أخيراً، بعد طول شدٍّ ومطٍّ وتطويل وتكرار وافتعال وركاكة وسطحية واستهبال، في النص والتمثيل والإخراج، انتهت أحداث مسلسل "الخائن" بحلقاته التسعين، وهو تركيٌّ معرّب، من بطولة سلافة معمار وقيس الشيخ نجيب وغيرهما من نجوم الدرامتين، السورية واللبنانية. جذب العمل، على خفّته وضحالة محتواه، ملايين المشاهدين، وحقّق المرتبة الأولى في نسب المشاهدات، ويحقّ لمتابعيه، بعد كل ذلك العناء، تبادل التهاني بالسلامة على طول صبرهم واحتمالهم هذا المقدار من التصنّع وثقل الظلّ والاستخفاف بمعايير الفن التي اغتيلت جملةً وتفصيلاً، إذا ما استثنينا عنصر الفرجة من بيوت فارهة وأزياء فاخرة ومشاهد طبيعية خلّابة تبيحها البيئة التركية المتنوّعة، حيث جرى التصوير واستغرق أشهراً طويلة، بحسب صنّاع العمل الذين قبضوا أجوراً فلكيةً، وحقّقوا شهرةً مضاعفة، وأصبحوا ضيوفاً مطلوبين في البرامج الحوارية، ما أسعد قلوب أصحاب  الشركة المنتجة غير العابئين بالقيمة الفنية التي لا تدخل في حساباتهم، كما هو واضح، طالما أنه تمكّن من اجتذاب أكبر عدد من المعلنين. يدعمهم بذلك جمهورٌ متحمّسٌ مشكوكٌ في ذائقته وقدرته على التمييز بين الغثّ والسمين في زمن الرداءة والانحطاط الذي تشهده الدراما العربية في السنوات الأخيرة، وكأن مخيّلات الكتّاب العرب قد نضبت، فلم تعد قادرة على معالجة القضايا والظواهر المحلية، فلم يعد أمام شركات الإنتاج سوى السطو على منجزات الآخرين، والمصيبة أنهم يختارون الأعمال الأكثر رداءة. وربما كان ذلك لاعتباراتٍ مادّية تجعلهم "يسترخصون"، وهم على يقينٍ أنه "كله عند العرب صابون".
القصة الرهيبة (المؤثّرة!) لمسلسل "الخائن" لا تحتمل أكثر من خمس حلقات على أبعد تقدير. عن صراع مفتعل بين امرأتين (تيا وأسيل) على الفوز بقلب رجلٍ بمواصفات هايفة منفّرة، سيف، الخائن الوصولي المتردّد السارق. احتوى العمل على كثيرٍ من المكائد والدسائس والمؤامرات النسائية، ما يسيء، بالمطلق، إلى صورة المرأة التي ظهرت شرّيرة ماكرة محتالة فارغة سطحية (مكيودة)، غيورة، حتى لو كانت طبيبة أو سيدة أعمال، ففي النهاية، هي عند كاتب للنص العبقري مجرد مخلوق هشّ يستمد قيمته وإحساسه بذاته من إقرار الرجل بهما. كذلك تضمّن مغالطاتٍ كثيرة غير منطقية غير قابلة للتصديق، مثلاً، حين تهدّد تيا سيف بأنها ستحرمه مشاهدة ابنته إذا ما ظلّ مصرّاً على موقفه بطلب الطلاق، لأنه يرغب في العودة إلى زوجته أسيل التي خانها معها قبل أن يقع في الندم، علماً أن أي طالب حقوق في سنته الأولى يعرف أن ذلك غير ممكن من الناحية القانونية، فحقّ المشاهدة في حالة حدوث الطلاق ثابت للأبوين بحكم القانون، ولا يمكن لأيٍّ منهما حرمان الآخر هذا الحقّ. لم يلتفت صنّاع العمل الجهابذة إلى هذا التفصيل الثانوي، بل جعلوه أساساً للصراع غير المقنع بين الأطراف المتنازعة التي ظهرت في جميع الحالات والمواقف بأبهى حلة من حيث الأناقة المفرطة، حتى إن بطلة العمل أسيل ظلت تتجوّل في بيتها، وهي ترتدي الكعب العالي، حتى لو كانت مرتدية البيجاما أو روب الحمّام! وظلت الممثلات يستيقظن من نومهنّ بمكياج كامل من الرموش الاصطناعية، وظلّ الكحل الأسود الثقيل، ما أبعد المسلسل أميالاً عن مقاربة الواقع، وأفقده الصدق في التعبير عن حالات المرأة المخذولة، ومصادرة حقّها في الظهور انسجاماً مع حالتها النفسية على طبيعتها دون إضافات، بشعر غير مصفّف ووجهٍ خالٍ من المساحيق وهيئةٍ رثّة تعبّر عن حزنها وانكسارها وغضبها وحقدها غير الدفين، وذلك احتراماً للحقيقة ليس أكثر!

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.