الحوار الوطني .. كوميديا سياسية زاعقة
قبل أكثر من ثلاثة أشهر، كان الإعلان عن إطلاق ما وصف بأنه "حوار وطني" في مصر، لمناسبة عودة المياه إلى مجاريها بين الجنرال عبد الفتاح السيسي ومنافسه الشكلي، فيما سميت انتخابات 2014 الرئاسية، حمدين صبّاحي، والأخير هو مؤسس حزب الكرامة ورئيسه السابق، ومؤسّس التيار الشعبي كذلك.
الأبرز في حصيلة الأشهر الثلاثة التالية للإعلان عن حوار وطني يحقق مصالحة سياسية واجتماعية ويفتح النوافذ المغلقة، أنّ خليفة حمدين صبّاحي ووريثه في قيادة الحزب والتيار، النائب أحمد طنطاوي، أجبر على الخروج من مصر، والاستقرار في بيروت، مدة لا يعلمها إلا الله، غير أن أسباب هذه الخروج الاضطراري معلومة للكافّة، وأهمها أن النظام السياسي في مصر ضاق ذرعًا بمناكفات النائب المعارض، وكلامه المتواصل عن سوء الإدارة ، وتجفيف الحياة السياسية، ومصادرة الحريات والتغييب الكامل للديمقراطية، وبعبارة واحدة قطع الطريق على أي محاولة للتغيير والإصلاح.
بعد مرور أكثر من مائة يوم على انطلاق الدعوة في أجواء أزمات عنيفة يواجهها النظام في الخارج والداخل، لم يتحقّق شيء من الحوار، سوى بناء هياكل وتشكيل أمانات ولجان، تنبثق عنها لجان، تتسع وتنتشر وتصدر عنها تصريحات، من دون أن يذهب أحدٌ إلى حوار جادّ وحقيقي بشأن قضايا محدّدة تؤرق المجتمع، ويبحث لها الناس عن مخارج من حالة شلل قومي لا مثيل لها في التاريخ.
بحسب أحدث الإعلانات الترويجية للحوار، الصادر أول أمس، بعد الجلسة الخامسة لأمانة الحوار، تقرّر التوسّع في تشكيل لجان واختيار مقررين، ومقررين مساعدين، بالعشرات، للبحث في صياغة المحاور السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحوار المزمع، أو المزعوم، بما يرسم صورة كاريكاتورية جدًا، وكأنهم بصدد تشكيل حزب أو تنظيم سياسي، أو الاستعداد لانتخابات محليات، يتم انتداب العناصر الخبيرة المدربة لإدارتها وخوضها.
اللافت، والمثير للسخرية، أنهم لم يجدوا وسيلة للخروج من الورطة، سوى الاستعانة بتشكيلة من الحرس القديم والحرس الجديد في نظام حسني مبارك، بل إنّ بعضهم من موروثات التنظيم الطليعي في ستينيات جمال عبد الناصر، مثل أمين الإعلام، ثم أمين التثقيف والتدريب في حزب آل مبارك، قبل ثورة 25 يناير، علي الدين هلال.
يصل مع علي الدين هلال على متن قوارب إنقاذ الحوار الوطني صفي الدين خربوش أمين المجلس للأعلى للشباب ووزير الشباب في زمن حسني مبارك، وأحد قيادات حزبه الحاكم، ومعه مجموعة من أعضاء فريق أمانة سياسات مشروع الوريث الذي لم يتم جمال مبارك، في إعلان صارخ وصريح عن أنّ عشر سنوات من حكم الجنرال السيسي لم تفرز وجوهًا يمكنها أن تدير، أو تمارس، اللعبة السياسية، ولا تتمتع بأي قدر من الكفاءة يمكنها من تجميل صورة قمة النظام، وإغراء أطراف من خارجه بالدخول إلى حظيرة الحوار.
الشاهد أنّ لدى هذا الحوار الوطني المقصود محور واحد أساس، هو القطيعة التامة والخصومة الصريحة مع ما بقي من ملامح لثورة يناير (2011)، وعليه لا غرابة في استغاثة السلطة الحالية بمعلمي دولة مبارك العميقة، الكبار والصغار، لترميم تصدعات النظام الناشئ عن عملية 30 يونيو ( 2013)، والتي كانت انقلابًا عسكريًا محمولًا على ظهر ثورة مضادّة، هي صناعة بقايا الدولة العميقة التي أطاحت بها ثورة يناير، فعادت للانتقام في صيف 2013 حين منحها الجنرالات الضوء الأخضر.
يبقى الباعث على الدهشة والسخرية هنا أنّ نفرًا ممن يصنّفون أنفسهم من أبناء ثورة يناير قبلوا بسعادة أن يكونوا جزءً من ديكور مسرح استعراضات الحوار الوطني، جنبًا إلى جنب مع من كانوا يسمّونهم "فلول" نظام مبارك، ليلعبوا الدور ذاته الذي طالما استخدموه في السخرية من الفلول: دور المحلل المستعار في عملية تعويم سفينة تصارع الغرق.