الحوار السياسي الليبي في قيود مستمرة
بدأ طرح فكرة ملتقى الحوار الوطني (الليبي) الجامع في سبتمبر/ أيلول 2017. ومنذ ذاك الوقت، تحاول الأمم المتحدة ابتكار آلية لتجديد شرعية المؤسسات، والوصول إلى الحالة الدائمة. وعلى مدى الفترة، ظهرت صعوبات دفعت المبعوث الأممي السابق، غسان سلامة، لتقديم استقالته، ومن ثم، يثير وصول البعثة الأممية إلى إحياء الحوار السياسي الجدل حول وقف الحرب وفرصة إنجاز المرحلة الانتقالية، حيث ترتبط تحدّيات الوصول إلى السلام بمدى تماسك المؤسسات الجديدة.
وعلى الرغم من انعقاد عديد الاجتماعات، ولأسباب مختلفة، لم تتمكّن البعثة الأممية من السير بـ"خريطة الطريق" نحو تكوين القواسم المشتركة، لكن مجريات الحوار الليبي لم تتسم، منذ 26 فبراير/ شباط 2020، بالاستمرارية. وبسبب تعقيدات الحرب والاختلاف الدولي، توقف حتى 26 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول، ما يعني انقطاع التتابع الزمني، فخلال هذه الفترة، حدثت تغيرات كثيرة، لعل أهمها استقالة غسان سلامة، مارس/ آذار الماضي، وإخفاق الحملة العسكرية على طرابلس، وتغير المواقف الدولية نحو وقف إطلاق النار، ما يوضح أن العوامل الخارجية شكلت الأرضية السياسية لمسار المناقشات.
وبعد تراجع فرص الحوار السياسي واستقالة غسان سلامة، بدأت القائمة بأعمال البعثة، استيفاني وليامز، بالعمل على تكوين موقف دولي مساند لخفض مستوى التنافر بين الدول، حيث زارت مصر وروسيا وتركيا، والاتحاد الأوروبي، للحصول على ضمانات بوقف إطلاق النار وتهيئة البيئة لاجتماعات ملتقى الحوار، كما ساهم تراجع الهجوم على العاصمة، طرابلس، في دعم المسار السلمي.
قد يكون تفتيش ألمانيا سفينة شحن تركية بداية لسعي الأوروبيين إلى الاستحواذ على الشؤون الليبية
وعلى مدى جلسات حوار متزامنة في سويسرا والمغرب ومصر، تم الإعداد لجسة عامة في تونس، 9 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، وفيها وجهت المبعوثة وليامز الشكر لحكومات ألمانيا، إيطاليا، المملكة المتحدة والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، فيما استثنت دولاً أخرى شاركت في مؤتمر برلين، مثل تركيا وفرنسا ومصر وروسيا، وما زالت مؤثرة في الملف الليبي. ما يشير إلى انحيازات تعكس جانباً من التمييز بين الدول، ما قد يدعم تنافر المواقف الدولية، ويجعل لجنة الحوار ممزّقة حسب ولاءات مكوناتها الخارجية. ولافتٌ أن تترافق هذه التطورات مع سعي أوروبا إلى تطبيق الحصار البحري حول ليبيا، وفق خطة "إيرنى" لمنع منافسي الاتحاد الأوروبي من حرية الملاحة، قد يكون تفتيش ألمانيا سفينة شحن تركية، بداية لسعي الأوروبيين للاستحواذ على الشؤون الليبية.
وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى صعوبة استبعاد تأثير العوامل الخارجية على تشكيل الوضع السياسي في ليبيا، حيث تتعدّد وسائل التأثير على ملتقى الحوار الليبي، أهمها، تصريحات السفير الأميركي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، في 3 نوفمبر الحالي، في أثناء زيارته روسيا، حيث اعتبر "خليفة حفتر أحد الأطراف الفاعلة" ومحدّداً رئيسياً لإمكانية الحل السلمي. وقد يكون هذا التوجه تجاوباً مع التطلعات الروسية، لكنه يعمل على تثبيت أطر الحرب في شرقي ليبيا وغربيها، ما يعكس أن الإرادة الدولية غير راغبة في حسم الوضع في ليبيا، وتبدو أقرب إلى تركه من دون حل والقبول بنتائجه، حتى لو كان تقسيم البلاد حسب الوضع القائم في مراحل الصراع.
من أجل استدراك ثغرات الاتفاق السياسي (الصخيرات)، اتجهت البعثة الأممية إلى توسيع دور ملتقى الحوار
وفي إطار محاولات التقدم بأجندة الحوار، اتجهت البعثة الأممية إلى تشكيل لجنة "ملتقى الحوار الوطني"، وقد حدث جدل واسع حول طبيعتها. ولأجل استدراك ثغرات الاتفاق السياسي (الصخيرات)، اتجهت البعثة إلى توسيع دور ملتقى الحوار، حيث منحتها وظيفة رقابية على المسار الانتقالي (م 4) من مقترحات السلطة التنفيذية، بحيث يمكنها الانعقاد دورياً والتدخل في حالة الإخلال بالجدول الزمني، وذلك عبر طريقين؛ دعوة من رئاسة البعثة أو طلب من 25 عضواً من دون هيكلة مستقلة، مالية وإدارية، تنتظم فاعلية المهام الرقابية لحماية المهام الانتقالية، ما يرجّح تكرار انفلات السلطة وعدم تقيدها بالإطار القانوني. وهناك سلطات إضافية، تتمثل في البت في المسار الدستوري، وإصدار التشريعات الانتخابية في حالة عجز المؤسسات الانتقالية عن الوفاء بالتزاماتها.
قد تعكس تركيبتها محاولة للوصول إلى التمثيل المناسب للمجتمع، حسب الانتماء الحزبي وتمثيل الدوائر الانتخابية والمستقلين، في إطار عملية مركبة تضمن التقليل من اختزال المناقشات في نتائج الانتخابات في عامي 2012 و2014. وفيما كانت معايير تمثيل الحزبيين وأعضاء مجلسي النواب والدولة واضحة، فقد بدا تعريف المستقلين (48 عضواً) غير مستند لمعايير صلبة، انفردت البعثة الأممية باختيارهم من دون الإفصاح عنها. وبغض النظر عن كفاية معايير تشكيل اللجنة، يعد افتقاد معيار الحصانة والحماية السياسية أو المنعة الاجتماعية للأعضاء سبباً كافياً للتردّد في الإعلان عن آراء أو مواقف تفاوضية، تزيد مساحة التلاقي على مصلحة الدولة.
يعد التوجه المباشر للتصويت، من دون محاولة تقريب المواقف، عاملاً محفزاً للانقسام ومحبطاً للتراضي حول بدائل وسطى
ولاستكمال خصائص عملية الحوار السياسي، تبدو أهمية نظام التصويت، ففي الخبرة الليبية، شكل ربط التوافق بأرقام كمّية مدخلاً لإثارة الانقسام، كما حدث في إجازة مشروع الدستور بأغلبية الثلثين، ويماثلها اقتراح استيفاني وليامز نسبة 75% لإجازة مقترح معايير الترشيح للمناصب الحكومية، وهي شروط تعد تعجيزية وإشكالية في حد ذاتها، فهي، من وجه، تقترب من حالة الإجماع، بحيث تمنح أقلية صغيرة حق احتكار القرار السياسي وتعطيله. ومن وجه آخر، يعد التوجه المباشر للتصويت، من دون محاولة تقريب المواقف، عاملاً محفزاً للانقسام ومحبطاً للتراضي حول بدائل وسطى. ويمكن القول إن اشتراط أغلبية خاصة في بيئة منقسمة ظل مدخلاً سهلاً لتعطيل التلاقي على حل توافقي. وفي هذا السياق، بدا النظام الانتخابي أداة أساسية في تفكيك المؤسسات وإطاحة الديمقراطية، وخصوصاً ما يتعلق بقانون الصوت الواحد غير المتحول واتباع الحصص الإقليمية، والإصرار على الحصص النوعية في الجهات التشريعية والتنفيذية، المحتمل أن تكون عقبة في تشكيل المجلس الرئاسي، لتبرز سلوكاً تصويتياً ونتائج معقدة، لم يستطع المجتمع الليبي تحمُّل نتائجها.
في هذه الأجواء، ناقشت جلسات الحوار أربع أوراق؛ خريطة الطريق للمرحلة التمهيدية للحل الشامل، واختصاصات السلطة التنفيذية وصلاحياتها، وشروط الترشح للسلطة التنفيذية، وأخيراً، آليات الترشح والاختيار. وقد سيطرت توجهات على أن إعادة تشكيل السلطة التنفيذية يقود للحل السلمي، وعلى هذا الأساس تضمنت مخرجات الملتقى بناء مسار الوصول لانتخابات برلمانية ورئاسية على أساس دستوري عبر تشكيل سلطة تقوم بمهمة الإعداد للانتخابات ووقف النزاع المسلح وتوحيد المؤسسات. وحسب مقترحات السلطة التنفيذية، ترتبت أولويات السلطة التنفيذية في تهيئة المناخ للتماسك الاجتماعي والتحول السلمي، فيما يختص مجلس النواب بمنح الثقة للحكومة وفي حالة تعذرها يتم إحالتها إلى ملتقى الحوار. وهنا تأتي أهمية توحيد المؤسسات ضمن أعمال جدول الحوار، وتبدو اجتماعات النواب في المغرب مؤشراً جيداً لاستكشاف احتمالية التقدم في إجازة الحكومة الانتقالية.
ناقشت جلسات الحوار خريطة الطريق للمرحلة التمهيدية للحل الشامل، واختصاصات السلطة التنفيذية وصلاحياتها، وشروط الترشح للسلطة التنفيذية، وأخيراً، آليات الترشح والاختيار
وبعد الاجتهاد في تكوين الصيغة القانونية للمرحلة الانتقالية، وضعت البعثة الأممية أربعة بدائل لاختيار المجلس الرئاسي ورئيس الوزراء، حاولت الجمع ما بين المجمع الانتخابي الإقليمي والتصويت العام في "ملتقى الحوار السياسي". وكما تبدو ، هي خيارات مفتوحة لا تتبنى موقفاً مسبقاً، لكن نتائجها تتوقف على مدى اقتراب الليبيين من التخلي عن حالة الانقسام والاقتراب من الدولة الموحدة، ولعل انتقال المناقشات عبر تقنية التواصل الشبكي سوف يؤثر على اتجاهات التصويت على بدائل اختيار السلطة التنفيذية، بحيث تتزايد احتمالات التوجه نحو الانضواء تحت هيمنة الوعي المحلي المناطقي والتقليل من دور لجنة الحوار، والذي يظهر واضحاً في البديل الثالث الذي يمنح المجمع الانتخابي المحلي حق اختيار ممثليه للرئاسي والحكومة. قد يكشف طرح أربعة خيارات جانباً من حياد البعثة الدولية ورمي الكرة في ملعب الليبيين، غير أن التراجع للمناقشات غير المباشرة، عبر الإنترنت، يعزز التحيزات الجهوية بما يزيد من تشتت الآراء والمواقف السياسية.
ومن خلال قراءة الاتجاه العام للخريطة الانتقالية، يمكن ملاحظة، أنها استصحبت النقص المزمن في عدم التمييز ما بين الوضعين، الانتقالي والدائم، فقد أناطت بالحكومة مهام تتعلق بإدارة الاقتصاد وسن تشريعيات غير انتخابية. بمعنى تمديد سلطتها لتشمل كل الوظائف العادية. وبالنظر إلى الخبرة السابقة، تعثر الانتقال من مرحلة إلى أخرى، بسبب تطلع النخبة السياسية للاستمرار في شغل مناصب رسمية، ولعل عدم وضوح دور لأي سلطة آمرة في تحديد شرعية لجنة الحوار بعد انتهاء النطاق الزمني (18 شهراً) وتم تحديد موعد الانتخابات في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2021 بطريقة أقرب إلى العفوية، ما يفتح الفرصة للنزاع حول السلطة والصراع السياسي. وهنا، يمكن الإشارة إلى أن المعايير القائمة تفتح الطريق لاستمرار المجموعات الحالية، ما يزيد من احتمالية استمرار الفراغ السياسي.
تراجع المناقشات غير المباشرة، عبر الإنترنت، يعزّز التحيزات الجهوية بما يزيد من تشتت الآراء والمواقف السياسية
على أية حال، سوف تكون طريقة تشكيل السلطة التنفيذية مؤشراً مهماً على مدى التفويض اللازم للوصول إلى الوضع السلمي، لكن معايير تشكيلها لا تبدو العامل الحاسم في نجاح المرحلة الانتقالية، حيث يشكل تنافر البيئة الداخلية وتباين أنماط التدخل الدولي مهدّدات لتنفيذ الخريطة الانتقالية، ويمكن الإشارة إلى استبعاد الصيغة الحالية للحوار للمطالبين بالاستفتاء الدستوري، كما تنتشر حالة تربص تكاد تلتهم مخرجات الملتقى السياسي.
لعل نتائج الحوار الحالية تشير إلى محدودية هامش التغير، حيث لا تبدو الفترة الانتقالية الجديدة مختلفة عن الفترات السابقة، وهذا ما يرجع إلى الخيارات الضيقة للبعثة الأممية، وتسيير الحوار بطريقةٍ تضمن بقاء محتوى الخلاف من دون حل. وبالتالي، سوف يتوقف نجاح الفترة الانتقالية على عاملين: مدى تغير الشاغلين للمواقع التنفيذية، وقدراتهم السياسية. وما يتعلق بقدرة الليبيين على خفض التدخل الخارجي عبر التفاهم الشرعي بين مجلسي النواب والدولة.