شرطة الأخلاق وأزمة السياسة في ليبيا
على الرغم من انضواء حماية الآداب العامة ضمن مهام وزارة الداخلية، لاقى إعلان وزير داخلية الحكومة الليبية المعترف بها دولياً، عماد الطرابلسي، قرار إعادة شرطة الآداب اهتماماً واسعاً دون غيره من قرارات خطة الوزارة. وبجانب تأثيره المباشر على فئات المجتمع، اتضحت اللغة الأيديولوجية في مفردات الخطاب السياسي، لتكون حافزاً لانتشار الجدل بشأن محتوى التشريع الجديد وآثاره السياسية على السلطة والمجتمع.
بدأت الأحداث في السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري مع إعلان الوزير خطة وزارته، من ملفّاتها ما أطلق عليه تدابير الآداب العامة، وهي تصوّرات لتحديد ملامح الضوابط المجتمعية في التركيز على الأمن الظاهر. وبعد أسبوع من إعلان وزير الداخلية، صدر قراران منفصلان، أحدهما عن المجلس الرئاسي، تشكيل جهاز "حماية الآداب العامة"، والآخر من رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، إنشاء "الإدارة العامة لحماية الآداب العامة". وحسب القراريْن، لا يمكن ملاحظة اختلاف في الوظائف الإدارية والأمنية.
ووفق التصريحات والقرارات، يشمل نطاق التشريع الرقابة المباشرة على سلوك الأفراد، كالاختلاط غير الشرعي بين النساء والرجال في الأماكن العامة، وتمتد الرقابة إلى الأماكن المغلقة حتى اقتحامها في حالة الضرورة، كما يشمل منع صيحات الموضة المستوردة، مراقبة محتوى الشبكات الاجتماعية، بالإضافة إلى تفضيل فرض الحجاب في المدارس، ابتداء من عُمر العشر سنوات. تتبنّى هذه السياسة أولوية الضبط، على خلاف اقتراح سابق في 2021، قامت فلسفته على الحماية أكثر من الاتهام، كما وضع تعريفاً للجرائم الأخلاقية خالياً من الأيديولوجيا، وبحيث لا تبدو عمليات المتابعة والرقابة تقييداً للحقوق الفردية.
تتبنّى السياسة المتبعة في ليبيا اليوم أولوية الضبط، على خلاف اقتراح سابق في 2021، قامت فلسفته على الحماية أكثر من الاتهام
وبغض النظر عن مدى توافق تلك التشريعات مع الحقوق الأساسية للأفراد، يشير دخولها في المساحة الأيديولوجية إلى احتمال الترتيب لتحالفات سياسية أو عسكرية، وهي أرضية مناسبة للاصطفاف الأيديولوجي، خصوصاً مع تنوّع الفواعل في المنطقة الغربية وضعف علاقاتها المؤسّسية مقارنة بالوعي بالمصالح الخاصة أو المشروع الفكري.
وعلى مستوى التنظيمات الإسلامية، رغم الخلافات بين التيارات الدينية، جاء قرار الحكومة قاسماً مشتركاً مع أولويات التيارات الإسلامية بمختلف اتجاهاتها. ورغم الخلاف السياسي ما بين السلفية المدخلية والتيارات الإسلامية الأخرى، يقع محتوى القرارات في المساحة المشتركة بينها، وخصوصاً ما يرتبط بالتصوّر عن وضع النساء في المجتمع والزي الشرعي. وهنا، تتلاقى توجّهات الحكومة مع تطلعات كُتلة سياسية وأمنية كبيرة، فكما يتمتّع التيار المدخلي بنفوذ واسع في المؤسّسات الرسمية، تنتشر آراء مفتي عام ليبيا، الشيخ صادق الغرياني، بين غالبية تيارات الإسلام السياسي. وخلال الأشهر الماضية، وضح تقارب الحكومة مع دار الإفتاء في افتتاح بعض المراكز التعليمية، ما يُمثل أرضية داعمة للحكومة أو متوافقة معها من طيف إسلاميٍ واسعٍ.
تمتد الرقابة إلى الأماكن المغلقة حتى اقتحامها في حالة الضرورة، كما يشمل القرار منع صيحات الموضة المستوردة
وعلى مستوى آخر، لاقت الخطوة احتجاج منظمات حقوقية وإعلامية، حيث اعتبرت توجه الحكومة مُخالفاً للإعلان الدستوري، وتجاوزاً لاختصاصات السلطة التشريعية، وأبدت قلقها من احتمالية استخدام القوة في التضييق على الحريات الخاصة والعامة، بما في ذلك إغلاق المقاهي، ومنع النساء من السفر. وترى "المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان" أن تفويض حكومة الوحدة، حسب خريطة الطريق، لا يمنحها الشرعية الكافية لإقرار مثل هذه السياسات الاجتماعية.
وبغض النظر عن اتجاهات التأييد المحتملة أو الانتقادات التقليدية من منظمات حقوق الإنسان، لم تضع القرارات معايير لتعريف السلوك المُخالف للآداب العامة، فما يتعلق بالحشمة والحجاب، يتيح فرصة لتوسّع السلطة التقديرية للمخالفة، خصوصاً مع افتقار المؤسّسات العامة للحوكمة الإدارية، واختلاف الجهة الآمرة لدى الحكومتين، ما يرجّح تراجع القدرة على الضبط، وخصوصاً في ظل ضعف الدولة مقارنة بالمجتمع التقليدي والشبكات الاجتماعية الجديدة.
وبشكل عام، يعكس تتابع دورة صياغة نظام الأمن الاجتماعي من وزارة الداخلية صعوداً للحكومة والمجلس الرئاسي شكلاً عكسياً لتراتب إعداد السياسة العامة. وبجانب كشفها عن مؤشّرات النفوذ، تشير هذه الهيكلية إلى قدرة المكونات الفرعية على تفعيل دور الحكومة. تتسق هذه التوجّهات مع مساعي وزير الداخلية إلى تحسين سلطة الحكومة، غير أنه رغم تسيير العبور على الحدود البرّية مع تونس، يظل تعثر مبادرة إخلاء العاصمة من المقرّات العسكرية تحدّياً قائماً لبسط سلطة الحكومة على الشؤون الأمنية والإدارية.
يعكس تتابع دورة صياغة نظام الأمن الاجتماعي من وزارة الداخلية صعوداً للحكومة والمجلس الرئاسي شكلاً عكسياً لتراتب إعداد السياسة العامة
وتتفاقم تحدّيات الحكومة مع صعود تأثير الكيانات العسكرية في العاصمة، لتقع الحكومة في سلسلة من المشكلات، لا تتوقف عند وجود حكومة فعلية في شرق البلاد وجنوبها، بل تمتد حتى الانقسامات الهيكلية في المؤسّسات العامة، فمع تنازع السيطرة بين الحكومتين، يواجه الليبيون مشكلة وجود نظاميْن في السياسة العامة، وكما هو في الجيش وبعض القطاعات الأخرى، بالإضافة إلى ثنائية الموازنة العامة، ما يجعل الحديث عن الدولة والحكومة مُفارقاً للواقع والممارسة.
في هذه الظروف، يساعد تعدّد السلطة على تعميق الاختلاف في الموقف من الضبط الاجتماعي على جانبي الدولة؛ فبجانب غياب حكومة الوحدة الفعلي عن شرق البلاد وجنوبها، فإنها تواجه مشكلة مشروعيتها، وخصوصاً بعد إصدار مجلس النواب قراراً في 13 أغسطس/ آب الماضي بانتهاء ولايتها وفق خريطة المرحلة الانتقالية، لتكون حكومة شرق ليبيا بديلة عنها في المشروعية والسيطرة الفعلية.
على أية حال، يكمن التحدّي الأساس في أن شمول القرار كل المجتمع الليبي بداية من عمر عشر سنوات، يفوق قدرات الحكومتين على الضبط، حيث كانت التغيرات المجتمعية في سنوات ما بعد 2011 أكثر تنوّعاً وتأثراً بتداعيات العولمة وتعدّد الأحزاب، بالإضافة إلى اعتياد الأجيال الجديدة على استهلاك منتجات الحداثة. ولذلك، ما يثيره القرار سوف يتركّز في اشتباك غير منتظم حول علاقات الديني والسياسي والشكل الملائم لتحديث الدولة.