الحرية للحرية
النحيب على الحرية بات طقسًا يوميًا في مصر .. نتألم، جميعًا، ونحن نرى مصر تنزف يوميًا خلاصة كوادرها السياسية والثقافية والمهنية، من دون توقفٍ منذ ثماني سنوات، ولا شيء سوى النزيف والألم، رد فعل وحيدًا على أعمال الإبادة، التي تنفذها الأجهزة الأمنية، والقضائية، في البلاد.
المستهدف ليس فقط مجموعة من الأشخاص، بعضهم مشهور وأكثريتهم غير ذلك، بل أيضا قيمة الحرية نفسها، بحيث تتحوّل شيئًا فشيئًا إلى مطلبٍ لا يثير اهتمام أحد ولا يستفز إنسانيته.
الوصول إلى الهدف تطلب من السلطة الحالية قطع خطوط الاتصال بين القوى الحية والفاعلة من النخب الثقافية والسياسية، وبين الجماهير، ثم الانفراد بهذه الجماهير وحقنها بقيم وأفكار تحتقر مفهوم الحرية السياسية، وترى في المعارضة، كل أشكال المعارضة وأحجامها، عدوانًا على سلامة أراضي الوطن، وإرهابًا يستهدف أبناءه، والنتيجة النهائية أن أحكام القضاء باتت تكرّس مضمونًا واحدًا، وإن اختلف المنطوق من حكم إلى آخر، ومن قضية إلى أخرى .. هذا المضمون يقول، وقوله لا يقبل الطعن أو النقض، إن المعارضة إرهاب، وإن حقوق الإنسان مرضٌ يهدّد سلامة المجتمع، والتفكير في الثورة أو استعادة شعاراتها أو التعبير عن الحنين إليها، ذلك كله من الجرائم الخطيرة، وبالتالي فالأحكام المغلظة على مرتكبيها ضرورة وطنية.
على ضوء هذه المعطيات، يمكن قراءة أحكام الأمس بتأييد إدراج رئيس حزب "مصر القوية" الطبيب والنقابي البارز عبد المنعم أبو الفتوح، ونائبه محمد القصاص، والمحامي الشاب محمد الباقر، على قوائم الكيانات الإرهابية.. وقبلها أحكام أول من أمس بسجن النائب البرلماني السابق المحامي زياد العليمي خمس سنوات، والصحافيين هشام فؤاد وحسام مؤنس أربع سنوات، والمواطنين الثلاثة، غير المشهورين، فاطمة أبو المعاطي وحسام عبد الناصر ومحمد بهنسي ثلاث سنوات، وجميعهم شملتهم القضية التي عرفت باسم "خلية الأمل"، والتي ارتكب المدرجون فيها جريمة الأمل في حياة تليق بالبشر، يمارس فيها المواطن حق التعبير عن رأيه والمطالبة بحقوقه.
الضجيج الذي صاحب نظر هذه القضية وترقب الأحكام الصادرة فيها، من المهم أن يذكّر بآلاف من الشخصيات الوطنية، من كوادر سياسية، ومهنية وحقوقية محترمة، من المنسيين، أو بالحد الأدنى من المسكوت عنهم داخل السجون منذ ثماني سنوات .. من المهم ألا تسقط حريات هؤلاء من الذاكرة بالتقادم، أو بالنحيب على الضحايا الأحدث.
محمد سعد الكتاتني ومحمد البلتاجي وولداه، وعصام سلطان، ومحمد عادل ومحمد رفاعة الطهطاوي وحازم صلاح أبو إسماعيل وهيثم محمدين وعلاء عبد الفتاح، مجرد نماذج قليلة جدًا لمئات بل آلاف من القيادات السياسية والبرلمانية والحزبية، يقبعون داخل السجون في أوضاع كارثية، يستنكف بعضنا تذكّرهم بوصفهم، هم أيضًا، من سجناء الرأي والثورة، هذا إن تذكّرهم أحد من الأصل.
هذه الأوضاع الكارثية فيما يخص الحريات السياسية وحقوق الإنسان تجعل من الضروري تحرير مفهوم الحرية نفسه من قيود الشخصنة والهوى الأيديولوجي، فهل نحن حقًا نؤمن بالحرية على إطلاقها، في كل وقتٍ ولكل إنسان مظلوم؟.
مفهوم الحرية، كذلك، بحاجةٍ إلى تخليصه من أوهام أن حرية حقيقية وكاملة يمكن أن تمنح للمحرومين منها عن طريق استجداء العفو والعطوفة والمكرمة ممن بنوا ملكهم وحكمهم على عوائد الحرب وأرباحها على الحرية، وقد بحّت الأصوات تعيد وتزيد في أن هذه السلطة، سياسية وقضائية، ليست مستعدّة للتفريط فيما لديها من رهائن وأسرى داخل الزنازين، ومن ثم فإن التوجه إليها بخطاب المناشدة، أو الرجاء بالإفراج عن ضحاياها، هو قفزٌ على حقيقةٍ محزنة، تقول إنه بالمجمل لا يمكن توقع خير من نظام يفخر بأنه شرير، خصوصاً وهو بات يعرف كيف يشتري ضمير العالم الرسمي، بصفقات السلاح وشحنات الغاز، ويجيد التموضع في كنف الرعاية والدعم الصهيونية، ووقت اللزوم يتقن فن مغازلة المقاومة واستدراجها والتقاط الصور معها .
في هذا الوضع المعتم، سوف تبدأ حملاتٌ جديدةٌ لمناشدة السلطة العفو عن المشمولين بأحكام لا يجوز استئنافها أو نقضها. وبحسب التجارب السابقة، لن تستجيب السلطة، وقد تستجيب في حالاتٍ نادرة، تخرج مكسورة، وموصومة بالإرهاب، لا لشيءٍ إلا لأنها تجاسرت ومارست الحد الأدنى من التعبير عن الرأي والمعارضة.
ذات يوم، تناولت صحيفة تايمز البريطانية دولة السيسي بعد فضيحة مقتل جوليو ريجيني، فكان العنوان "استبداد في القاهرة: مقتل جوليو ريجيني يشير إلى العفن الذي ينخر في الدولة المصرية". .. الكارثة أن هذا العفن يجد من يقدّره ويستثمر فيه ويتعاون معه، ويعقد معها الصفقات، بينما لا يزال المتضرّرون منه يحلمون بالخلاص عن طريق شركائه الإقليميين والدوليين، بل ويطلبون منه العفو والرأفة.