الحركات النسوية وغزّة
مرّ يوم المرأة العالمي وطيفٌ واسعٌ من نساء العالم يرزحن تحت نير الاستغلال والحيف والقسوة والحروب. تحظر نساء غزّة تحديداً مثالاً متوهّجاً لهذه المعجزة: قمع استعمار استيطاني باطش وإرادة صلبة لا تلين. قلّةٌ هي الحركات النسوية التي أصدرت إشارات مساندة إلى نساء غزّة. ومع ذلك، كان طعم هذا العيد للمرأة دالّاً في مذاقه المرّ على معاناة نساء غزّة.
تعجز حواسّ حركات نسائية عديدة في العالم عن التقاط وجع السناء الفلسطينيات، وهو عجزٌ ناجمٌ عن التشريط الذي يخضعن له خلال عقود التنشئة التي خضعن لها خلال تربيتهنّ وتعليمهنّ، فضلاً عن حلقات النضال الجمعوي أو الحزبي الذي خُضنه.
ارتبطت نشأة الحركة النسائية شديد الارتباط بالكفاح ضد أشكال الاستغلال الرأسمالي. ومع ذلك، انحرف النضال النسوي لاحقاً حين حوّلن قضيتهنّ التي تستحقّ التعبئة هي النضال ضد الهيمنة الذكورية وتسلّط الرجال عليهنّ. لقد اجتمع، لأول مرّة في مثل هذا اليوم من سنة 1908، ما يناهز عن خمسة عشر ألف امرأة أميركية للتظاهر من أجل ثلاثة مطالب كبرى، هي تقليص ساعات العمل وأجور عادلة وحقّ الانتخاب. ولقد تبنّى الحزب الاشتراكي الأميركي هذه المطالب مدافعاً عن جعل هذا اليوم عيداً وطنياً. ثم ما لبث حتى تبنّته المناضلة اليسارية كلارا زتكن التي نادت به يوماً عالمياً سنة 1910 في كوبنهاغن بمناسبة انعقاد مؤتمر النساء العاملات. وجرى إحياؤه أول مرّة يوماً عالمياً للنساء السنة التالية في بلدان عديدة، على غرار سويسرا وألمانيا والنمسا والدنمارك، قبل أن تتبنّاه الأمم المتحدة سنة 1975 أول مرّة واعتباره يوماً عالمياً للمرأة.
تتعرض النساء، بين حين وآخر، لأشكال مختلفة من الهيمنة الذكورية الرجالية داخل المجتمع الفلسطيني ذاته
لا أحد ينكر أن النساء، أينما كنّ، عانَيْن من الاضطهاد الذكوري في مجتمعاتٍ إنسانيةٍ عديدة، حقباً طويلة. ومع ذلك، يحتاج الأمر إلى كثيرٍ من التنسيب. في سياقاتٍ عديدةٍ تحفل بها خصوصيات المجتمعات بأشكال مختلفة، ولا يمكن وضعُها في نموذج موحّد، يحدُث أن تتقاسم الأدوار بشكلٍ يكاد يكون دالّاً على هيمنةٍ نسويةٍ على عالم الرجال. في حالاتٍ أخرى، يبدو أن الأمر لا يخلو من تواطؤٍ، يبدو ظاهرياً فيه أن الهيمنة للرجال، غير أن حقيقة الأمر مخالفة لهذه المظاهر، فما إن نلج إلى العوالم الداخلية، حتى تبدو النساء يهيمنّ حقيقة على مجالات عديدة، فهنّ يمتلكن مفاتيح المسائل الأكثر حيويةً، على غرار قرار الزواج والملكية والسلطة. تثير أعمال المغربية فاطمة المرنيسي أسئلة مربكةً بشأن هذه النماذج التي تنسب أحكاماً مسبقة عديدة، خصوصاً بشأن المرأة المسلمة. ومع ذلك، ما زالت دراسات أنثروبولوجية منغمسة في تتبّع أشكال الهيمنة الجنسية في مختلف المجتمعات، ولربما وجدت مجتمعات خالية تماماً من أيّ أنواع من الهيمنة القائمة على النوع الاجتماعي. لذلك ظلت تيارات نسوية كثيرة، غربية تحديداً، إما مناهضة لهذه الخصوصيات العربية المسلمة، وإما مطالبة بإلحاقهن بـ"نسوية غربية بيضاء"، على غرار ما ذهبت إليه منظّرة النسوية ما بعد الكولونيالية، قاياتري سبيفاك.
هذه النسوية التي ابتكرت قاموساً خاصّاً وسجلاً مهمّاً من التحرّك الاحتجاجي لا تولي أيّ اهتمام للأبعاد الإثنية أو الوطنية أو الطبقية، فهي تجتثّ النساء من تلك العوالم وتجندرهن في تجريد كوني. ولم يكن من المصادفة أنّ رائدات هذه التيارات النسوية المنتفضة على النسوية البيضاء "ملوّنات"، منتميات إلى إثنيات مختلفة، أي "تابعات"، حسب التصوّر الغربي الرأسمالي. وقد شكّل ذلك انشقاقاً على تقاليد الحركة النسوية، كما خطّتها النساء الغربيات البيضاوات.
ستمنحنا الحرب على غزّة الفرصة لنحت مفاهيم قد لا تكون ضرورة قائمة على ابستيمياء غربية
مع اندلاع الحرب على غزّة في بداية شهر أكتوبر الماضي، ظلّت أصوات النساء اللواتي ساندن حركة المقاومة، أو نساء غزّة تحديداً، استثناءً. وتعرّضت عميدات جامعات أميركية عديدة لضغوط قوية، ما قادهنّ لاحقاً إلى الاعتذار أو الاستقالة أو الإقالة. تمثل حالة منظّرة الجندرة الفيلسوفة جوديت باتلر استثناءً دالّاً، وهي التي ذهبت بعيداً، وحلّقت خارج السرب حين دانت أخلاقياً ما قامت به إسرائيل واعتبرته بلا مبرّر. ورغم أنها دانت أيضاً حركة حماس، فقد سلّطت عليها حملات إدانة واسعة وصلت إلى حد التهديد، ولكنها رغم ارتباكها، ظلّت عموماً محافظة على موقفها الأخلاقي، ولم تذهب إلى تشريع ما يجري من حرب إبادةٍ بشعة.
لا تحجب كل هذه الخصوصيات حقيقة أن النساء في غزّة حالة نادرة لا تخلو من معضلات أخلاقية وأدبية، فهنّ ضحايا للهيمنة الاستعمارية الاستيطانية، وقد نالهن جرّاء ذلك تعسّف لا نظير له، وأشكال غير مسبوقة من التنكيل. ومع ذلك يتعرّضن، بين حين وآخر، لأشكال مختلفة من الهيمنة الذكورية الرجالية داخل المجتمع الفلسطيني ذاته. وقد نبّهنا في سبعينيات القرن الماضي المفكر الفلسطيني هشام شرابي من خطورة تناسي هذه المسألة، حين نحت مفهوم البنية البطريركية لتفسير إخفاقات حركة التحرّر الفلسطينية والعربية عموماً، وهي التي تقدّم سردية ذكورية عن النضال والمقاومة الفلسطينيين.
ستمنحنا الحرب على غزّة الفرصة لنحت مفاهيم قد لا تكون ضرورة قائمة على ابستيمياء غربية.