الحرب على غزّة... وهذه الجامعات

23 أكتوبر 2023

طلاب من جامعات في لاهاي في مسيرة تضامن مع غزّة (12/10/2023/Getty)

+ الخط -

لم تكن غزّة وحدها ضحية العدوان الإسرائيلي الغاشم، رغم أنها الوحيدة التي دفعت الثمن باهظاً. ومع ذلك، الضحايا الذين طاولتهم أيضاً هذه الحرب عديدون: القيم الكونية، وفي مقدمها الحرية، منظومة حقوق الإنسان، موضوعية الإعلام ومهنيته. لقد كشفت الحرب على غزّة تهافت الادّعاء بأن الغرب شيّد هذه المُثل، والتزم بها ودافع عنها.
تصدّرت بعض الدول، ومنها فرنسا وألمانيا، قائمة الدول التي ضيّقت على الحد الأدنى من هذه الحرّيات، وأهمها حرّية التظاهر تأييداً للفلسطينيين واستنكاراً لوحشية الكيان الصهيوني. صدرت في فرنسا مناشير وتحذيراتٌ عديدةٌ تهدّد المهاجرين من أصول مغاربية أو عربية أو مسلمة، بالطرد من التراب الفرنسي، بل اتّخذت إجراءاتٍ صارمة، حتى في حقّ الفرنسيين. أما ألمانيا فقد هدّدت، في مكر، بطرد من يساند حركة حماس. وهي بهذا تريد أن تخلط بين نصرة غزّة ونصرة "حماس"، بما يفيد ذلك ضمناً الإيحاء الشرير بأنها منظمّة إرهابية، وبالتالي مناصرتها انتصارٌ للإرهاب.
عمد الاتحاد الأوروبي منذ سنة 2003 إلى تصنيف "حماس" منظمة إرهابية، وكذلك كندا والولايات المتحدة، في اعتداء سافر على حقّ الشعوب في مقاومة المحتل. وربما وجدت هذه الدول في تواطؤ سلطة أوسلو مبرّراً لكل ذلك الصلف. ولعل تصريحات الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، أخيراً، تؤيد هذا، حين ذكر ذلك في رام الله وتالياً في كلمته في قمّة القاهرة الدولية للسلام. كرّر في المناسبتين أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين. حدّ هذا التنصيف من إمكانية مساندة حماس أو غيرها من منظمات المقاومة بل عمدت هذه الدول إلى توسيع التعسّف في تأويل هذا القانون، حتى لا يتم  التمييز بين مساندة "حماس" ومناصرة الفلسطينيين عموماً.
بعيدا عن التصريحات التي تمنح الضوء الأخضر لمزيد من العدوان على غزّة وترفع الشرعية عن مقاومة حركة حماس، بل وتؤلّب سكّانها على المقاومة بالذات، فإن "العالم الحرّ" أيضاً فقد العديد من القيم التي كان يدّعي أنه يمثلها. لقد ظلّ هذا العالم معلماً يلقّن الشعوب الأخرى دروسه في الحضارة والتقدّم والإنسانية. غرس في النخب الحاكمة والمثقفة في دول الجنوب أنه النموذج المثالي الذي يُحتذى، وطوّع المناهج الدراسية في كل البلدان تقريباً، من أجل تدريب الأجيال الناشئة على تمثل تلك القيم.

لن يستطيع الغرب أن يقدّم لنا درساً في احترام الحريات الأكاديمية، وهو الأوْلى أن يعيد تعلّم الالتزام بها

اتّخذت جامعات غربية عديدة، ومنها أميركية، على إثر الحرب الظالمة الجارية على غزة، جملة من القرارات، منها تخفيض مشاريع التعاون من الجامعات التي امتنعت عن إدانة الفلسطينيين (فما بالك بالجامعات التي أيّدتهم). وكذلك توبيخ الطلاب الذين أصدروا بيانات مؤيدة للفلسطينيين. قدّمت جامعتا هارفارد وجورج تاون نموذجاً لذلك التردّد والتنازل أمام ضغط اللوبيات الصهيونية وقوة لجماعات المانحين، كما حذّرت منتسبيها من مغبّة مساندة غزة أو استنكار ما يرتكبه العدو الصهيوني فيهم.
لا يعد هذا الموقف غريباً، فجلّ الأوساط الأكاديمية الغربية ظلت مؤيّدة لإسرائيل. ويصدُر هذا الانحياز عن مواقف عنصرية تغذّيها خلفيات استشراقية. وللأسف لم تستطع الحداثة أن تلطّف منها، كما أن بعضهم يصدر عن خوفٍ من الآلة الأكاديمية الشرسة التي تستطيع أن تدمّر مسيرات هؤلاء الأكاديميين، فضلاً عن الخوف من التهميش. أما القلّة القليلة من هؤلاء فمواقفهم تصدر عن جهل، خصوصاً في ظل الدعاية الرهيبة والمعرفة العلمية التي بناها الصهاينة حتى غدت هي الحقيقة. وتعود جذور الانحياز الأكاديمي الغربي إلى الخمسينيات وأواخر الأربعينيات، حين بدأت أوروبا تكفّر عن ذنبها الذي اقترفته في حقّ اليهود، فعمدت إلى تسييج الحقيقة التي بنتها عن المحرقة، حتى التشكيك في أعداد الضحايا أو الأمكنة أو تنسيب الروايات عدّ مستوجباً للعقاب (قوانين إنكار المحرقة). 
ومع ذلك كله، ظلّ أكاديميون ومثقّفون وفنّانون عديدون يغرّدون خارج السرب، عندما انحازوا إلى الفلسطينيين، متصدّين بذلك لآلة التضليل الضخمة والدفاع النبيل والمبدئي عن ضحايا العدوان الوحشي الذي تمارسه إسرائيل ضد المدنيين العزّل في غزّة. كما دفعت هذه الحرب إلى بروز مبادرات أكاديمية عديدة في بلداننا العربية لمساندة غزّة، حيث عمد جامعيون عديدون إلى التوقيع على عرائض مساندة، كما طالب عديدون منهم بوقف مسارات التطبيع التي بدأتها بعض الجامعات العربية، خصوصا في البلدان التي طبّعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل.
لن يستطيع الغرب أن يقدّم لنا درساً في احترام الحريات الأكاديمية، وهو الأوْلى أن يعيد تعلّم الالتزام بها.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.