الحرب الباردة الجديدة

13 يناير 2022
+ الخط -

تكشف الأحداث الجارية أخيرا في كازاخستان المأزق الذي باتت تواجهه الشعوب في تطلعها نحو الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وعلى الرغم من نجاح بعض الانتفاضات الشعبية في إحداث تعديلٍ نسبي في ميزان القوى في مواجهة تغوُّل الرأسمالية الجديدة وتحالف السلطة والفساد (تشيلي مثلا)، إلا أن شعوبا كثيرة تصطدم بمعادلاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ معقدة، تحول دون تحقيق الحد الأدنى من تطلعاتها. وينطبق ذلك، إلى حد كبير، على كازاخستان، التي شهدت، الأسبوع الفائت، اندلاع انتفاضة شعبية احتجاجا على ارتفاع أسعار الغاز. وبقدر ما فاجأت هذه الانتفاضة العالمَ بشراستها، أربكت الحسابات الجيوسياسية، خصوصا بالنسبة لروسيا التي وجدت نفسها أمام تحدٍّ جديدٍ لم يكن ضمن حساباتها، ما دام الأمر يتعلق بمجالها الحيوي الذي يتشكّل، بالأساس، من الجمهوريات السوفييتية السابقة. وجاء تدخلها بإرسال قوات لحفظ السلام إلى كازاخستان، في إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي، ليخلط الأوراق في اختبارٍ لتوازنات القوة والنفوذ في آسيا الوسطى. وتُدرك موسكو جيدا أن تكرار السيناريو الأوكراني في حدودها الجنوبية سيكون خنجرا في خاصرتها، بحيث ستكون له ارتدادات إقليمية، وسيُفضي إلى انكماش في نفوذها، في مقابل تمدّدٍ وارد لحلف الناتو نحو هذه المنطقة. ولا يبدو أن الروس سيسمحون بـ ''ثورات ملوَّنة'' أخرى في جوارهم، على غرار ما جرى في جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا وروسيا البيضاء.

يتعلق الأمر بحربٍ باردةٍ جديدةٍ تتغذّى على التوتر الروسي الغربي المتنامي على أكثر من واجهة. ومن هنا، ينطوي التدخل الروسي في كازاخستان على رسائل دالّة إلى الولايات المتحدة والغرب عموما، أبرزها أن موسكو لن تتساهل مع من يريد المسّ بمجالها الحيوي الذي تعد كازاخستان رقما أساسيا في معادلته، فإضافة إلى أهميتها الاقتصادية، وما تزخر به من ثروات طبيعية مختلفة، توجد أقلية روسية مهمة فيها، هذا فضلا عن تعاون اقتصادي وعسكري ما فتئت وتيرته تتزايد بين البلدين، وهو ما يمثل عمقا استراتيجيا بالنسبة لروسيا.

على الأغلب، ستدفع أزمة كازاخستان دول آسيا الوسطى إلى إعادة بناء أولوياتها وفق حسابات جديدة، تأخذ بعين الاعتبار الحساسية الجيوسياسية المفرطة للإقليم، بانتهاج سياسة تتوخى التوازن والحياد في مواجهة القوى الدولية المؤثرة (روسيا والصين والولايات المتحدة)، ما يعني تجنب السيناريوهات التي قد تدفع بها نحو التفكك والاحتراب الداخلي، خاصة أن معظم الأنظمة الحاكمة فيها أخفقت، طوال العقود التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفييتي، في بناء نماذج اقتصادية وتنموية تستجيب لمطامح شعوبها.

هناك حرب باردة جديدة تُنذر بتعويم تطلعات الشعوب في تقاطبات إقليمية ودولية؛ حرب تتشكل ملامحها الرئيسة من خلال أقطاب جديدة تسعى للتأثير في السياسة الدولية بما يخدم مصالحها العابرة للحدود. وتمثل الجمهوريات السوفييتية السابقة بالنسبة للولايات المتحدة وحلف الناتو واجهة استراتيجية لتضييق الخناق على روسيا واستنزافها في أزماتٍ وبؤر توترٍ عند حدودها، بما يؤدّي إلى إنهاكها على المدى البعيد، هذا في وقتٍ يؤشّر مآل الأزمة في كازاخستان إلى مرحلة جديدة في علاقة روسيا بجيرانها، فبتدخلها العسكري في الأزمة تؤكّد أنها لن تسمح بوجود حكومة موالية للغرب هناك. وبذلك يتحوّل هذا التدخل إلى ورقة مساومة توظفها موسكو في المجال السوفييتي السابق، ودفع دوله إلى الخروج من حيادها حيال صراعها مع الغرب، هذا إضافة إلى تعزيز موقعها التفاوضي في الملف الأوكراني بكل تعقيداته الجيوسياسية، في ظل مطالبة الغرب بسحب حشودها العسكرية من حدودها مع أوكرانيا. وفي المقابل، يدرك الغرب ما ينطوي عليه إرسال قوات روسية إلى كازاخستان من مخاطر بالنسبة لشبكة مصالحه، فالقوات التي سبق أن أرسلتها موسكو إلى بؤر توتر في الجمهوريات السوفييتية السابقة لا تزال هناك، بما يعنيه ذلك من تعزيز نفوذها العسكري والأمني في الإقليم، وتوسيع هامش الحركة أمامها في الملف الأوكراني وغيره.