الحجاب والنقاب والعباءة مرّة أخرى

14 سبتمبر 2023
+ الخط -

مرّة أخرى، تطفو على سطح الأحداث العالمية قضية الحجاب والنقاب والعباءة، باعتبارها إحدى مفردات الهوية للمرأة المسلمة. ومرّة أخرى، يتحوّل هذا الزيّ الذي ترتديه، كلياً أو جزئياً، ملايين النساء في العالم كله إلى مادّة للإثارة و"تهمة" جاهزة، تواجهها المرأة التي ترتديه ليس في بلاد أصدرت قيوداً عليه وحسب، لكن أيضاً في بلاد أخرى. فمثل هذه القرارات المثيرة تُحدِث لنفسها أصداء عالمية تتجاوز حدودها الجغرافية، لتكون مدعاة للتقليد في بلدان أخرى على الصعيد الاجتماعي. وفي كل مرّة يصدر قرار من هذا النوع في أي من البلاد يثار نقاش يتجاوز حدوده، ويساهم في تكوين رأي عالمي ضد زيّ المرأة المسلمة، ويشيع تصوراً لدى غير المسلمين، وربما لدى بعضهم أيضاً، أنّ مثل هذا الزيّ يساهم في تقويض الأمن العام، بلا أدلّة حقيقية وإنما بناء على تصوّرات فردية استثنائية وحسب.

يأتي الحديث، هذه المرّة، من فرنسا التي حظرت العباءة في المدارس التي تسمح عادة بارتداء أزياء مختلفة، ومن مصر التي حظرت النقاب ووضعت قيوداً واشتراطات معينة على الحجاب في المدارس أيضاً، فالنقاب ممنوعٌ بسلطة وزارة التعليم حتى لو وافق عليه ولي الأمر، أما الحجاب فينبغي موافقة ولي الأمر عليه! والنقاش هنا بعيد تماماً عن النقاش الفقهي المعتاد عن شرعية وعدم شرعية الحجاب أو النقاب أو العباءة في الإسلام، وهو نقاش آخر يستحقّ الإثارة، لكن بعيداً عن ظرفٍ يتعلق بالحريات وحدها.

يعيدنا هذا إلى أصل الجدل بشأن حقوق الفرد وحرية الاختيار والتعبير الشخصي، باعتبار هذه القضايا المتعلقة بملابس المرأة المسلمة تحديداً، تتناقض مع مفهوم الحرّية الشخصية، لكنّها أيضاً تتعلق بالقيم والهوية الثقافية والأمن الوطني، وفقاً لآراء من يشجّع المنع، فكيف يمكننا التفكير في هذه القرارات والقضايا من منظور حرية الاختيار واحترامها؟

أولاً، وقبل كلّ شيء، يجب أن نعترف بأن حقوق الفرد وحرية الاختيار قيمة أساسية في المجتمعات الديمقراطية، أو التي تدّعي ذلك. لذا ينبغي أن يكون للأفراد الحقّ في ارتداء الملابس التي يختارونها والتعبير عن هويّتهم الشخصية بحرية. بغضّ النظر عما تحيل إليه هذه الملابس، وما تعبر عنه دينياً أو ثقافياً أو اجتماعياً، ما دامت لا تخرج عن مفهوم الذوق الإنساني المتعارف عليه عالميا. ولذلك، يمكن أن يفتح تقييد هذه الحريات الباب أمام التمييز والقمع والانتهاكات لحقوق الإنسان، ويساهم في تبرير كلّ ما يمكنه أن يكون جزءاً من العنصرية باعتباره يهدّد الأمن العام بالمطلق!

فلا يمكن أن يثق المواطن بحكومة تصادر منه حقّه في التعبير عن نفسه وإيمانه بثقافة أو دين معيّن بواسطة التزامه بالزيّ الذي يوصي به هذا الدين على سبيل المثال! ولا يمكن الإيمان بالحرية في شقها الخاص أو الفردي وشقّها العام أو الجمعي، ما لم تسمح لفردٍ ما أن يؤمن بفكرة دينية لن تكتمل في إطارها المثالي، ما لم يلتزم صاحبها بزيّ معيّن على سبيل المثال، فالحجاب والنقاب والعباءة وأي زي آخر خيار شخصي أولاً، وهو من مستويات الفهم الديني في الإسلام للمرأة ثانياً. وبالتالي، لا يمكن القبول برفضه ما لم يتخذ منه وسيلة لغير هدفه الأولي، أو شكلاً لغير حاجته الأساسية باعتباره زيّاً إسلامياً خاصّاً بالمرأة وحسب، ولا سيما أنّه لم يهدّد في أي يوم السلم العام، كما يدّعي مناهضوه. وإذا كانت هناك حالات فردية فهي لا تعدو كونها مجرّد استثناءاتٍ يحدُث مثلها في كل ممارسة حياتية أخرى، ولا يمكن الاستناد إليها للانتقاص من حريةٍ في بلادٍ تدّعي أنها قامت على مبادئ الحرية مثل فرنسا.

والحديث عن زيّ المرأة المسلمة في الظرف الراهن ذو شجون، لأنّه يمثل تحدّياً حقيقياً لمفهوم الحرّية، انطلاقاً من حرية المرء في عيش حياته كما يحلو له ما لم يضرّ غيره. ومن الواضح أنّ بعض دعاة الحرّية وفقاً لهذا المفهوم يسقطون ويتساقطون كلما كان موضوع الامتحان زيّ المرأة المسلمة.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.