الجنيه والدولار سواء

05 ديسمبر 2022
+ الخط -

خفّضت مصر سعر الجنيه أكثر من مرة هذا العام، وتتجه إلى خفضه مُجدّداً خلال أيام. ولكن الأزمة الحقيقية ليست في انخفاض سعر العملة المحلية، فهو انعكاس لجانب واحد من الأزمة، الجانب المالي، وتحديداً في تجلياته النقدية. أما الأزمة الحقيقية التي يعاني منها الاقتصاد المصري، فهي أشمل وأعمق، وهي في كلمة واحدة "الإنتاج"، لأن دولاب الاقتصاد المصري ليس إنتاجياً، وإنما ريعي بالأساس، وخدمي جزئياً. ولذا تأثرت مصادر الدخل القومي بشدة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بسبب تراجع مداخيل قناة السويس وانحسار حركة الملاحة الدولية على وقع جائحة كورونا، وأيضاً انخفاض تحويلات المصريين العاملين في الخارج. أما السياحة، وهي المصدر الثالث، فعوائدها مُتدنية منذ سقوط الطائرة الروسية في شبه جزيرة سيناء عام 2015، ثم كادت تتوقف تماماً بسبب الجائحة والإغلاق.
على التوازي، تعرّض قطاع الصناعة الضعيف أصلاً لضربات متتالية. أولها سياسة الجباية التي تتوسّع فيها السلطات المصرية منذ سنوات، في شكل ضرائب متزايدة ورسوم باهظة وتعقيدات بيروقراطية تضطر المستثمرين وأصحاب المشروعات إلى التحايل عليها بمزيد من الإنفاق الذي يذهب إلى جيوب المنتفعين، ويتحمّله، في النهاية، المستهلك. وبالطبع، كانت نتيجة ذلك حالة انكماش شديد في الاقتصاد ككل، والقطاع الصناعي بصفة خاصة.
ثم تعرّض القطاع المدني ككل، الخاص والحكومي، إلى هجوم استحواذي واسع قامت به مؤسسات سيادية وكيانات تابعة للأجهزة الأمنية على كل القطاعات والأنشطة، بما فيها الإعلام، حتى صارت الفرصة ضئيلة أمام أي كيان أو شركة مدنية للصمود والاستمرار في نشاط صناعي أو تجاري أو خدمي، بما في ذلك المنافذ الصغيرة لبيع الأغذية والمشروبات السريعة في محطات الوقود. فضلاً بالطبع عن أنشطة مهمة، تبدأ بصناعات مثل الأغذية والجلود والملابس والبتروكيماويات الغذائية، مروراً بالمقاولات والمشروعات الإنشائية، سواء التابعة للدولة أو الخاصة، فضلاً عن استيراد سلع كثيرة. 
وبينما يتعرّض الاقتصاد لهذه الضغوط الساحقة، اقتصرت جهود الحكومة وأذرع الدولة، بما فيها الإعلام، على اختزال الأزمة في نقص العملة الأجنبية التي ليست هي المرض، وإنما فقط عرض لغياب هدف "الإنتاج" من أجندة عمل الحكومة والدولة المصرية ككل. وحتى تلك الجهود المتركّزة على توفير النقد الأجنبي، كان سقفها الأعلى ترحيل الأزمة وليس حلها. أو وفقاً لوزير المالية، لكي تتمكّن الدولة من سداد أصول القروض وخدمة الديون، فإنها تستدين مجدّداً. ثم تسدد تلك الديون الجديدة لاحقاً بالأسلوب نفسه، وهكذا تباعاً.
الغريب والمريب أن الحلول التي جرّبتها مصر، وأثبتت كلها فشلاً ذريعاً، تعيد اتباعها مجدّداً بإصرار غير مفهوم، فقروض صندوق النقد وروشتاته (وصفاته الإصلاحية) لم تفلح، ولو مرّة واحدة، في انتشال مصر من التردّي الاقتصادي المتوالي. والخفض المرتعش للجنيه المصري لم يجذب يوماً الاستثمارات، ولم يسفر أبداً سوى عن تضخّم السوق الموازية، واستفحال أزمة شحّ الدولار. 
وبعد أن سقطت تجربة الخصخصة في التسعينيات، عادت السلطة المصرية حالياً إلى بيع أصول ضخمة وركائز صناعية في قطاعات استراتيجية، مثل "الحديد والصلب" والألومنيوم والطوب الحراري، إضافة إلى فنادق فخمة وبنوك كبرى. وذلك، بدلاً من بناء مصانع جديدة، واستحداث صناعات تحويلية سريعة العائدات، وتنمية زراعة المحاصيل المطلوبة للتصدير، فضلاً بالطبع عن تحسين بيئة الاستثمار، وفتح الأبواب بحوافز حقيقية للمستثمرين.
هذه هي الحلول المؤكّدة والمجرّبة في العالم كله لتحسين وضع الاقتصاد، بتحويله إلى اقتصاد إنتاجي لا استهلاكي أو ريعي أو حتى خدمي. وإذا لم يكن هناك وجود فعلي لتلك الحلول ولا بوادر للشروع فيها، فلا أمل في رفع قيمة الجنيه المصري وتوفير الدولار. الأزمة الحقيقية هي ماذا تنتج لتبيع، سواء بالجنيه أو بالدولار.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.