الجميلات هنّ البطلات الفلسطينيات
أمّا وقد سقط القناع كليا عن القناع، وكشف الغرب الحر حامي حقوق الإنسان (!) عن وجهه الاستعماري المنافق القبيح البغيض، وعبّر بلا خجل عن انحيازه الفاجر الفاحش لقوى الظلم والعدوان، وصمّ مسامعه عن نداءات الأحرار وأصحاب الضمائر الحية ممن لا يملكون سوى حناجرهم تهدر في عواصم الدنيا، مناشدة بضرورة وقف الحرب وحقن الدماء، فيما اكتفت بلاد العرب أوطاني، مثل عهدها دائما، بالشجب والندب واللطم والتنديد وبالتظاهرات المرخّصة وبمؤتمرات رفع العتب، ثم واصلت مهرجاناتها واحتفالاتها الرقيعه الصفيقة، فقد تبين للعالم بأسره، وبما لا يقبل الشك، أن غزّة باتت وحدها بالمطلق، تواجه بمفردها أعتى أسلحة الدمار الشامل، وتتصدّى عزلاء متروكة لمخطّط الإبادة والتهجير، كما تيقّن العالم بأسره أن المرأة الفلسطينية مستهدفة على نحو خاص، وإلا ماذا يمكن أن يفسّر أعداد الشهيدات الهائل في المجزرة الدائرة في قطاع غزّة بلا توقف، صبايا جميلات في عمر الورد، ما زلن على مقاعد الدراسة، طبيبات، ممرّضات، مهندسات، معلمات، أمهات وحيدات، يقنصهن العدو المجرم على مدار الساعة، يغتالهن بلا هوادة وعن سابق تصميم وترصّد، ليس فقط بسبب خصوبتهن وقدرتهن على الإنجاب، وإصرارهن على البقاء، وتهديدهن المباشر معادلة الديمغرافيا، رعب إسرائيل الحقيقي، بل لأنهن شريكات أساسيات في فعل المقاومة والصمود والتحدّي، مناضلات حقيقيات، تحلين بالقوة والشجاعة والثبات والصبر، حاضرات في تفاصيل المعركة.
رغم أوجاعهن الكثيرة، يعالجن الجرحى، يواسين الحزانى، يخبزن ما توفر من طحين شحّ وجوده على الحطب، يُطعمن الصغار، ويصبرن على الجوع، يلملن ما تبقّى من أشلاء منازلهن. ينظفن الشوارع، يساعدن الغير بإمكاناتهن الضئيله، يدارين دموعهن، يتفّجعن بصمت على أحبّتهن ويكابرن، وما أبرعهن في المكابرة (!).
من عُمق يأسها، جرّاء تخاذل أمة عربية ليست واحدة، تنكّرت لعذابات شعبها، صرخت إحداهن في وجه الكاميرا التي جالت في أرجاء خيمتها المتهالكة "لا تصوّرنا، إحنا مش للفرجة، إحنا شعب حي، بدناش مساعدة من حدا، ومن أرضنا مش طالعين شو ما صار". وصرّحت طفلة غزّية لما تتجاوز العاشرة، بكل طلاقة ممكنة، للمحطة إخبارية "هذي بلادي، أنا رح أعيش فيها حتى آخر قطرة دم في روحي، وإذا متت رح أندفن فيها". وغنّت عجوز طاعنة، بصوت شجي متعب: "شدّوا بعضكم يا أهل فلسطين شدّوا بعضكم". وقالت امرأة ثلاثينية تحمل كتب أولادها في درب شتاتها الجديد "رح أكمل تعليمهم، أهم إشي العلم".
وتنهار النائبة في الكونغرس من أصل فلسطيني رشيدة طليب بالبكاء، مخاطبة جدّتها المقيمة في فلسطين، وتقول "من أجلك، يا جدّتي، أقف هنا، عندما أرى صورا ومقاطع للدمار والموت في فلسطين، لا يخطر ببالي سوى الأطفال". وتقرأ في كلمتها القوية المؤثرة رسالة أم غزّية تُدعى إيمان، قالت فيها: "الليلة سأضع الأولاد في غرفة نومي، حتى إذا متنا نموت معا، ولا يعيش أحدنا ليحزن على فقدان الآخر". وتضيف رشيدة: "حطّمتني الرسالة أكثر بسبب سياسة بلادي المنحازة التي بسببها ستٌحرم هذه الأم من حقّها في رؤية أولادها يعيشون من دون خوف، ومن دون صدمة وعنف مؤلمَيْن. وتحثّ حكومة بلادها على الاعتراف بأن الدعم غير المشروط لإسرائيل سوف يؤدّي إلى إنكار حقوق ملايين اللاجئين، وتشجيع سياسيات الفصل العنصري".
جميلاتٌ يفرحن القلب، النساء الفلسطينيات البطلات، وهن نماذج مشرّفة لفكرة الأنوثة، وهي أكثر من أن تُحصى في هذه العجالة. ومن حقّ المرأة الفلسطينة علينا جميعا أن نقر بدورها الفاعل، وأن نوجّه إليها تحية الإكبار، وهي تحمل روحها على كفّها، كي تنير لنا درب الخلاص والحرية".