الجبرتي في انتظار معركة "الخُرم"
نام الجبرتي طويلا في الثرى بعد رحيله، نافضا عنه غبار المعارك التي كم أرّخ لها بقلمه في مجلداتٍ كانت تُحمل على ظهور البعران، حينما ينتقل من سكن إلى آخر، ولم يكن يخطر على باله أبدا أن "حبيبته وياقوتة قلبه مصر" ستدخل معركة "الخرم"، بعد قرنين، بعدما سمع عن أستاذٍ في العلوم السياسية، كان من أوائل الثانوية العامة، اسمه معتز بالله عبد الفتاح، يهدّد إثيوبيا جهارا نهارا، من دون أن يأخذ حبة أو حبتين، بأنه لا مناص أمام السلطة المصرية، ومراوغات إثيوبيا الواضحة، سوى بإحداث "خُرم"، في جدار سد النهضة.
حاول الجبرتي، بالطبع، أن يضحك على كلام أستاذ العلوم السياسية، ولكنه لم يستطع، نظرا إلى مرارة الوضع وعدم اللياقة أيضا. يذكر المؤرّخون، وهذا من دواعي الدهشة والمصادفات النادرة أيضا، أن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، الذي أرّخ لكل معارك مصر مع أبناء الفرنسيس، واصفا المدافع والبارود والمنجنيق، أنه لم ينطق أبدا بكلمة "خُرم"، لا في موقعةٍ ولا حتى تجريدة. وأنه، عليه رحمة الله، من أصل حبشي، نزح أسلافة من "جبرت"، إحدى مدن الزيلع الإسلامي في بلاد الحبشة. ويذكر القلقشندي، نقلا عن صاحب كتاب "تقويم البلدان"، أن صحّة جبرت هي "جبرة"، في حين يذكر أيضا أن الجبرتي صومالي الأصل، وهو من القبائل الصومالية، كقبيلة المريحان والمجبرين، حيث كانت مدينة زيلع صومالية في الأصل، حتى احتلتها الحبشة، فبذلك أضيف الجبرتي إلى دماء الأحباش من دون أن يكون كذلك. وهذا بالطبع "خرمٌ مقصودٌ في كلام المؤرّخين سبق خرم أستاذ العلوم السياسية"، بما يقرب من قرنين، فهل طعن الأحباش في "خُرم المؤرّخين"، ردا لعالم جليل من سلالتهم إلى جلدتهم، عالم جليل ما زالت كتبه تطبع في القاهرة طبعاتٍ عديدة ويعتبر حجّة؟
وعلى الرغم من أن الحبشة ليس لها أي منفذ بحري على العالم أبدا، فكيف ستعوم ضفادعنا البشرية مثلا كي تصل إلى السد، ثم تُحدث به هذا "الخُرم"، ونفرض أنهم أحدثوا هذا الخُرم الاستراتيجي، فزاد اتساعه مثلا، فغرق السودان وجنوبه، فهل سيعود أستاذ العلوم السياسية ويقول للضفادع: والآن عليكم أن تسدّوا الخُرم؟
والغريب أيضا في سيرة الجبرتي، في آخر أيام حياته، بعد مقتل ابنه خليل، أنه كتب، في آخر تدويناته، الآتي: "ومما يحكى أن الرشيد سأل الليث بن سعد، وقال له: يا أبا الحرث، ما صلاح بلدكم؟ يعني مصر، فقال له الليث بن سعد: أما صلاح أمرها ومزارعها فبالنيل، وأما أحكامها فمن رأس العين يأتي الكدر". وهنا قد انتهى كلام الليث بن سعد، من دون أن يذكر أي خُرم أبدا، ومن دون أن يرمي فشل الحكم، لا على ثورة يناير التي انتهت في 18 يوما من سنواتٍ تفوق العشرة، مشيرا وموقعا وحاكما بعدما انتهت الثورة تماما، وسجن ثوّارها وقُتلوا، ولا وقعوا على اتفاقيةٍ ولا شربوا كازوزة في الاتفاق، فكيف نسي أستاذ العلوم السياسية كل هذه الأحداث التي كان فيها محللا واستراتيجيا، واكتفى فقط "بالخُرم"؟
نحن أمام رؤية جديدة للأحداث، إذن. ونحن بدورنا في انتظار ما سوف يحدُث في معركة الخُرم، فهل سوف يتم تصوير العملية في أثناء عمل الخُرم، باعتبارها من أحدث الاستراتيجيات التي سوف تُضاف إلى العلوم العسكرية كافة، وقد تسجّل باسم المعتز بالله عبد الفتاح الذي تفوّق بالطبع على اللواء عبد العاطي، رحمه الله. وقد تكون الفكرة منقولةً من مخطوطاته، من دون الإشارة إلى المصدر. ويُحكى أيضا أن الجبرتي، بعد آخر تدويناته بشأن مصر والليث بن سعد وذكره النيل، وأن صلاح أمرها ومزارعها موكول بالنيل فقط، وليس بالخُرم، أنه امتنع عن الكتابة تماما بعدها بقليل، ثم كفّ بصره حزنا على وفاة ابنه خليل، وكان قد شكّ في أن رجال الباشا قد قتلوه عقابا له على معارضته حكم محمد علي باشا، ومات، رحمه الله، في 1240 هجرية، الموافق 1825 ميلادية، تاركا ثلاثة بيوت، في الصنادقية، وعلى النيل ببولاق، ومصر العتيقة، علاوة على آلافٍ من المخطوطات، تنوء بحملها البعران، في حال نقلها من مكان إلى آخر.