التمرّد الشبابي المدني والضمير الديني
ترتفع اليوم بصورة متصاعدة أصوات الشباب في العراق ولبنان، من قواعد اجتماعية شيعية عربية، في مناطق تُحكِم فيها إيران قبضتها. وكان السياق المتوقع أن تتراجع أي أصوات تمرّد أو احتجاج مدني، خصوصاً في ظلّ منظومات قمع ضخمة، ففي العراق ذهب مئات من القتلى الشباب من النشطاء، وتعرّضوا للضرب والاعتداء والتهديد المتكرّر. وعلى الرغم من ذلك كله، أعطت نتائج الانتخابات التي لم تهتم بها حركة الاحتجاجات كثيراً مؤشّراً على ولاء شعبي في الشارع للحركة، يُقابله تراجع التصويت للأحزاب الموالية لإيران.
ويؤخذ هنا في الحسبان أنّ مساحة الاستقلال الانتخابي محدودة، وما زالت تخضع لقوة نفوذ طهران، وتقاطعها مع واشنطن لضمان السيطرة على مركزية الحكم في المنطقة الخضراء لعراق ما بعد الاحتلال. مع ذلك، كان غضب الشارع العراقي واضحاً من أحزاب الولاء الطائفي، في الوقت ذاته، صوّت السُنّة خارج تشكلات الإخوان المسلمين، حتى لو كان ذلك لمجرّد اعتقاد بارتباط المرشّح بفكر التنظيمات الحزبية، أو سياقها السياسي وتبعيتها للمحاصصة الطائفية في نظام بغداد الجديد.
أما لبنان فعلى الرغم من قوة حزب الله الأمنية، داخل مؤسسات الدولة وخارجها، وبغض النظر عن الصراع الطائفي بين القوات اللبنانية وحزب الله، فإنّ الروح الشيعية التي كانت ضمن ضحايا انفجار مرفأ بيروت برزت كإحدى رهائن القمع، وإحكام الحصار من الحزب على الطائفة المروّعة في شهداء تفجير المخزن الكيميائي، الذي قد يُشير موقف الحزب الرافض للتحقيقات، وبقاء الملف على السطح، إلى دلائل تورّطه فيها، ضمن شراكته في مذابح النظام السوري الإرهابية.
بروز قوة مدنية من أوساط الشباب الشيعي اللبناني، تتحد مع الحركة الاحتجاجية المدنية المتجاوزة جدران الطائفية، خطر على حزب الله
ولم يكن الاحتجاج الشبابي الشيعي في لبنان مقيداً بتفجير المرفأ، لكنّه سبق ذلك في حملة "#كلن_يعني_كلن" التي أعلنت بقوة مسؤولية لحزب الله عن واقع الفساد، والتعطيل السياسي لا الحكومي فقط، الذي رهن الإرادة الوطنية العليا في لبنان لصالح طهران ومشروع توسّعها، من دون أن يعني ذلك براءة بقية الأطراف، سواء في جانب المسيحية السياسية التي قادها طائفياً الرئيس ميشال عون، وتوافقت مع التعطيل الإيراني، وهي اليوم تشعر بتكلفة هذا التحالف، واستثمار سمير جعجع له.
كما أن البنية السياسية السنية والمسيحية التي ارتهنت بالنظام السياسي في الخليج تتحمّل المسؤولية، ونضيف إلى ذلك مسارات التخبط السعودي المستمرّة التي تحاول أن تعوّض إخفاقها بمبادراتٍ عاطفية تستعدي الشعب اللبناني المحاصر، بين الخيبة العربية الفاشلة وتقدّم إيران الإستراتيجي.
وبالتالي، يمثل بروز قوة مدنية من أوساط الشباب الشيعي، تتحد مع الحركة الاحتجاجية المدنية المتجاوزة لجدران الطائفية في لبنان، خطراً على الحزب، وهو مؤشّر متزايد لثورة فكرية في أوساط الشيعة الشباب من التيار المدني الذي يصعب حصره، هل هو كتلة فكرية واحدة مناهضة للفكرة الدينية الإسلامية ككل، في الشباب الشيعة والسنة جميعاً؟ أم أنّه حالة رفض واحتجاج على فكرة توظيف الدين ضد مشاعرهم وحرياتهم السياسية والمدنية، وأنّ القضية هنا غياب الرؤية الثالثة عنهم، أو عدم حضورها في المشهد الحالي من صراعهم الحقوقي، مع النظام السياسي والديني المتحد، الذي وُرث في المنطقة العربية من عقود؟
الفراغ الحاصل اليوم في ظاهرة التمرّد المدني، يمنع تحوّله إلى حركة نهضة مثمرة في المجتمع
هذا الاحتجاج عبر به الزمن مبكّراً في الحالة السنية، وكانت فكرة التنوير والترشيد بناء على المقاصدية الإسلامية في الحقوق الإنسانية، متقدّمة عقوداً عنها في الحركة الشيعية، على الرغم من صدارة علي شريعتي الذي تحاربه اليوم منظومة الولي الفقيه، وتحتفي به القواعد العربية السنية الحقوقية. وشريعتي هو رمز اليسار الشيعي المعارض في إيران، وهذه القضية أكبر من ملف، فهي تحتاج لتوقف كبير معها، لأنّها تساهم في تشكلات الهوية الفكرية الجديدة في الشرق.
ولعلّ الفراغ الحاصل اليوم في ظاهرة التمرّد المدني، يمنع تحوّله إلى حركة نهضة مثمرة في المجتمع، فهي تحتاج أن تلتحم مع القاعدة الاجتماعية الشعبية لكل قُطرٍ من الوطن العربي، تجتاحه كلا الإشكاليتين، الإرث السابق والقائم لتأثير العسف باسم الدين، على حياة الفرد وحقوقه، والاستباحة التي رُهنت بالفتوى، وهي اليوم في حالة يقظةٍ متزايدةٍ في الجانب الشبابي الشيعي، لكنّ المشكلة أنها لا تتشكّل على الأرض قبل إحكام الإيرانيين قبضتهم التي سبق لها أن استخدمت مذهب الولي الفقيه الحديث ذراعاً استعمارياً للوطن العربي.
الحل للذات العربية الشبابية في العودة إلى ضمير الفرد ودلالة خطاب الإسلام الرشيد في ثلاثية أبعاد الإنسان
مساحة التفاهم السني الشيعي الممكن، ليس على قاعدة العرب فقط، بل إنّ المراجعات النقدية يمكن أن تشمل الجميع على كليات الإسلام الإيمانية ومنظومته الأخلاقية، لبناء تأسيس ثقافي جديد يدعم التوحد الشعبي للتقعيد الدستوري الحقوقي للجميع. ولذلك، من المهم البدء في حوارات مشتركة تُرصّف لهذه المرحلة الإيجابية، من العلاقات الشعبية في الوطن العربي، وبالذات عبر القاعدة الشبابية، بعدما استثمر توحش مشروع ولي الفقيه ضمير الإنسان، متقاطعاً مع العهد الطائفي للتوظيف الوهابي، والذي تجري فيه اليوم محاولات تقويم من داخل الحركة السلفية الإصلاحية، تخرج من ضيق الوهابية التي استخدمت كذراع سياسي وظيفي سعودي ضخم، ولا يزال جناحها الجامي فاعلاً في التوظيف، مع مساراتٍ أخرى، على الرغم من حالة الرياض أخيرا، والتي تسابق الزمن لإقناع الغرب بتخليها عن مواثيق الإسلام الأخلاقية.
يحتاج الشباب العربي اليوم أن يراجع بدقّة مسار الردّة العنيفة في الموقف الذي يجتاح ضمير كتل كبرى من الشباب، فتندفع مع مفاصلة الروح الإسلامية الأخلاقية، نحو الفكرة المادية الشرسة الحديثة المستنسخة من الغرب، والموظفة للهجوم على المسلمين وحصارهم في أرضهم وفي مهجرهم. وهذا لا يُقلل من أزمة المسلمين الداخلية وإشكالية واقعهم الأخلاقي، غير أن الحل للذات العربية الشبابية ليس التصحر الإلحادي، ولا التقدّم في قعر البئر للمثلية القهرية وجعلها دستور الحرية، وإنما في العودة إلى ضمير الفرد ودلالة خطاب الإسلام الرشيد في ثلاثية أبعاد الإنسان، الفرد الأخلاقي مع ذاته ومع المجتمع، والتشريع الدستوري الحقوقي الضامن للحريات السياسية، والإيمان بدافع الروح القيمية لنهضة الأوطان.