التماهي مع الفشل في السودان

24 مارس 2022
+ الخط -

(1)

لو تأخّـر الفيلسوف الكندي وأستاذ علم الاجتماع، آلان دونـو، ولم يصدر كتابه، "نظـام التفاهة" (2015)، وفضل أن ينتظر بضغة أعوام، لأثرى كتابه الشهير بنماذج أصيلة لتلك النظم التي نجح في توصيفها بالرداءة والفشل.. هو من الكتب الطريفة، والتي يجذب عنوانها القارئ، فهو يتناول حالة "الاعتياد" وسطوة اللامبالاة والتسطيح مقابل النظر الثاقب والتفكير العميق إزاء التغيرات التي تعتري جميع مناحي الحياة. مثال ذلك ما نراه في أحوال بعض أنظمة الحكم من حولنا، والتي تحتشد أنحاؤها بكلّ سلبي وكلّ رديء وكلّ ما هو فاشل. الإمعان في قبول الرداءة والانسحاب والتقهقر أمامها. أما التماهي معها، فهو أشبه باحتلال مقعدٍ مريح في مجالس التفاهة. لو كان التوصيف قصراَ على فردٍ أو جماعة من الناس، لربّما هان الأمر، ولكن حين يتضخّم نظامٌ سياسي واجتماعي، يحمل كامل ملامح الرداءة ومكوّنات الانحطاط، فذلك ما يصدُق أن يطلق عليه أساتذة العلوم السياسية "نظاما فاشلا"، خالٍ من كلِّ ملمح إيجابي. إنها التفاهة في أنصع صورها. ولعلّ السؤال المهـم هو لماذا استشرتْ أنظمة الرداءة في العقود الأخيرة، على نحو غير مسبوق، تزامناً مع التطور الذي لحق بثورة الاتصالات واندياح مظاهر العولمة؟

(2)

لنا أن نسأل: ألم تساهم ثورة الاتصالات وانتشار المعلوماتية وما أتاحته للبشرية في اكتشاف طاقاتٍ أحدثت أثراً فعالا، قاد إلى تغييرٍ في بنيات مجتمعاتٍ بشريةٍ كثيرة. من متابعاتنا أحوال بعض بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وإحداثيات ما سمّاه المراقبون "الربيع العربي" ألم يكن للإنترنت وما استجدّ من وسائل التواصل الاجتماعي من فعالية لازمة في إلحاق التآكل على هياكل سياسية سادت سنواتٍ في تلك المنطقة، ثم تهاوتْ وتداعت مثل تداعي عصا النبي سليمان بعد أن نخرت فيها الأرَضة، وكان الظن، عند بعض الأحياء من حوله، أن ذلك النبي حيٌ مستغرقٌ في إغفاءة مؤقتة؟

صار النظام في الخرطوم معلقاً بين سماء الثورة وأرض الانقلاب

لعلّ ثورة الاتصالات مثلتْ تلك "الأرَضة" التي افتضحتْ خواء بعض أنظمة الإقليم خلال العقدين الأخيرين، بدت للناظر خلالهما أنها حية، ثم دهمها "الربيع العربي" وصنّفت في عداد الموتى. من عاش تحت سلطان تلك الأنظمة حسب أنها ملكت قدرات الاستدامة، فيما هي اقتاتت فشلا وتنفّست خواء واجترّت تفـاهـة. أنظر في ذلك الإقليم لن تعجز أن ترى ما حاق بسورية وبمصر وبتونس وبليبيا وباليمن وبالصومال. قليل منها عاش تحوّلات إيجابية خروجا من تلك الحالة المأساوية، وبعضها غرق في مراوحة بين سقوط ثقيل وآخر أثقل منه.

(3)

ماذا عن حالة السودان الذي تحول من انتفاضة شعبية أذهلت العالم في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2018م ونجحت في إزاحة نظامٍ بُنيَ على الظلم والفساد والتفاهة، فإذا هي بعد انقلاب جنرالات الخرطوم، في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، مسخٌ كالقنطور لا هو إنسان بالكامل، ولا هو حصان بالكامل، كما مثلته الأساطير اليونانية، فصار نظاما معلقاً بين سماء الثورة وأرض الانقلاب. لم يستقرّ السودان على حالٍ سياسيٍّ، فيقبل به أهل البلاد الذين لم تنقطع تظاهراتهم، أو يقبل به المجتمع الدولي الذي أحجم عن التعامل معه.

قضى التباسُ أحوال البلد أنْ شكّل أولئك الجنرالات حكومة من عدّة وزراء من دون تعيين رئيسٍ عليهم يدير الحكومة، والأزمة السياسية تتفاقم كلّ يوم وبعده. وفيما يتساقط الشهداء تباعاً بالعشرات، يصرّ جنرالات الخرطوم أنهم من سيقودون مسيرة الثورة حتى تحقيق الانتقال إلى الحكم الديمقراطي. وإنه لممّا يثير العجب أن يطلب جنرالاتٌ تخلّصوا من الشكل المدني لثورةٍ شعبيةٍ أذهلت العالم، طلباً مثيرا للسخرية، أن يصدّق الثائرون السودانيون أنهم مساقون إلى ديمقراطية يقودها جنرالات.

(4)

هذا حالٌ بائس ومزرٍ لنخبة من عسكريين في السّودان، لم يبنوا قدراتهم خلال ثلاثين عاماً في صحبة عمر البشير إلا بالتطبيل والتهليل لرايات ذلك الطاغية. تولوا السلطة في السودان بمزاعم نصرة الثورة وهم مجهضوها، إذ لم يخلعوا بعد العباءات التي ألبسها لهم الطاغية. ليس ذلك فحسب، بل هم ساعون، بخطى خجولة أحياناً وسافرة أحايين أخرى، إلى إعادة أزلام نظام البشير إلى مواقعهم التي أخرجتهم منها ثورة ديسمبر 2018.

الرداءة ضاربةً أطنابها في كلّ مناحي الحياة. في التجارة، ترى بعض رجال أعمالٍ بلا مؤهلات سوى الفهلوة

أيكون قدر تلك البلاد أن يتولّى أمرها عند الاستقلال عام 1956، رئيس تخرّج من الجامعة الأميركية في بيروت في ثلاثينيات القرن العشرين، ليأتي الآن، وبعد نحو سبعين عاما، ليجلس على دست الحكم فيه، من لا يحسن فكّ الخط، إن لم يكن أميّاً بالكامل. لم يقف تدنّي القدرات السياسية والإدارية عند هذا الحدّ، بل انحدر الأداء التنفيذي للدولة، خلال الثلاثين عاما الماضية، إلى مستوىً لا يصدقه عاقل. أكاديميون مشكوكٌ في شهاداتٍ يدّعون نيلها من جامعاتٍ رصينة، تنسّموا مواقع وزارية على عهد البشير. بعضهم استكتب نفراً من أساتذة الجامعات ليحمل لقب "دكتور" زوراً، وبلا خجل. أعرف من كان وزيراً، بل ومن أكثر وزراء البشير استوزاراً، تجرأ واستكتب عدداً من موظفي وزارته فأنجزوا ما طلب منهم، ثم وضع اسمه على أغلفة كتبٍ خرجتْ من المطابع، لا يؤكّد أحدٌ إن كان ذلك الوزير قد اطلع على محتوياتها، ناهيك إن كان قد ألف أيّ فصلٍ فيها.

(5)

ذلك واحدٌ من وجوه الأنظمة الرديئة التافهة والفاشلة، ولأن الرداءة والخيبة والفشل سماتٌ لكامل النظام، فإنك ترى الرداءة ضاربةً أطنابها في كلّ مناحي الحياة. في التجارة، ترى بعض رجال أعمالٍ بلا مؤهلات سوى الفهلوة. في الجامعات، أكاديميون مزوَّرون يزوّرون الرسائل الجامعية من دون أن ترمش لهم عيون. في ساحات الإبداع يحتشد أدباء وفنانون وتشكيليون ومطربون، قليل منهم موهوبون وأكثرهم أدعياء.

لو عنّ لي أن أقترح على المفكر الكندي، آلان دونـو، صاحب كتاب "نظام التفاهة" الطريف، لرجوته أن ينظر في أحوال بعض بلدان موسم الربيع العربي لتنقيح بعض ما جاء في كتابه.