التفاتة إلى القضاء الفلسطيني
هل يعدّ مفاجئا الإعلان، أخيرا، أن وضع نظام النزاهة في القضاء الفلسطيني أصبح "مقلقا"؟ الجواب: لا. .. ببساطةٍ، لأن الأخبار الطيبة في الراهن الفلسطيني هي المُفاجئة، فمن العسير أن تُصادِف فيه ما يسرّ الخاطر. ومن بابٍ كهذا، قد ينصرف بعضُنا عن الاكتراث بالتقرير الاستقصائي الذي أنجزه "الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة" (أمان)، وأطلقه الأسبوع الماضي في رام الله، وهو تقريرٌ مهني غير مسبوق في موضوعه فلسطينيا، وجديرٌ بالتثمين، ذلك أنه ينحصر في عنوان "مقياس النزاهة في القضاء الفلسطيني". ويفيدُنا بأن العلامة النهائية التي حصل عليها القضاء، استنادا إلى 80 مؤشرا مستخدما في القياس بشأن نزاهته، هي 57 من مائة. وربما يكون ذهاب التقرير إلى أن هذه العلامة تعني أن وضع هذه النزاهة مقلقٌ يبعث على ترجيح عدم استخدام وصفٍ يفوق مسألة الإقلاق هذه منزلةً، من قبيل إن هذا المستوى الضعيف للنزاهة في القضاء الفلسطيني يسوّغ رميه بأنه مفزع. سيما وأن التقرير جاء على وجود مظاهر لتدخل سلبي من الأجهزة الأمنية في شؤون السلطة القضائية شرطا للسلامة عند التعيين والمماطلة في تنفيذ قرارات الإفراج عن محتجزين، والمسّ بحرمة المحاكم. كما أنه (التقرير) أظهر أن ثمّة نقصانا في تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص في التعيينات، نتيجة تدخل السلطة التنفيذية في نتائج المسابقة القضائية، وغياب التطبيق الفعلي لمبدأ الفصل بين السلطات، ما يُظهر (بلغة التقرير نفسه) علوية السلطة التنفيذية على بقية السلطات وفرض هيمنتها، ويُضعف من نزاهة الحكم.
ولولا أن ضعفا فادحا ستكون عليه هذه المقالة، لو استرسلت في نقولاتٍ عن التقرير البالغ الأهمية لمضت في هذا، وفي الوسع زيارة الموقع الإلكتروني لـ"ائتلاف أمان" الذي يحوز، منذ العام 2006، عضوية كاملة في منظمة الشفافية الدولية، وهو يضم مؤسساتٍ في المجتمع المدني الفلسطينية العاملة في الديمقراطية وحقوق الإنسان ومكافحة الفساد والحكم الصالح. ولكن تحرّزا من الضعف المتخوَّف منه لا يخرمه في شيء أن لا يُؤتى على أن القضاء الفلسطيني حصل في مجال الاستقلالية على علامة 51، وبشأن الشفافية على 67، وفي مكافحة الفساد على 62، وفي المساءلة على 47. وقد توسّل جهد الذين قاموا على إعداد التقرير، المشغول بخبرةٍ وحرصٍ على الدقة، التوصيف الموجز، والمهنية المحضة. وعندما يوصون، تبعا للمقاييس التي استخدموها، السلطة التنفيذية بوقف كل أشكال الهيمنة أو فرض النفوذ التي تظهر من خلال التشريعات أو الممارسات تجاه تدخلها في القضاء، فإنهم لا يقعون في السياسي والسجالي، ولا يصطفّون في أي موقعٍ ضمن ساحة التدافع الظاهرة في الحالة الفلسطينية، بين سلطةٍ ومعارضة. ومن هذا المدخل وحده، يحسُن أن يحظى تقرير الائتلاف المدني الفلسطيني (تأسّس في العام 2000) بقراءات مدقّقة، وأن يجد الأصداء الواجبة له.
وإذ لم تأت، حتى كتابة هذه السطور، أخبارٌ عن ردود فعلٍ أحدثها التقرير المتحدّث عنه (والمنوّه به بداهة)، من أهل القضاء وأهل السلطة والقرار في السلطة الفلسطينية، فإن هذا قد يدلّ على الروتيني الرتيب في الحالة العامة الفلسطينية، أي لا حجارة تحرّك الساكن، وإنما كلامٌ في كلامٍ يمرّ، ليتلوه كلامٌ آخر في كلامٍ آخر يمرّ أيضا، وهكذا دواليك في دورةٍ حلزونية. وفي مشهدٍ فيه هذه المقادير الكثيفة البلادة، من المهم أن لا تستسلم مؤسسات المجتمع الأهلي، وفاعليات المجتمع المدني، إلى الإحباط واليأس، وإنْ أسبابُهما كثيرة، سيما وقد صار مؤكّدا بوضوحٍ أن التعويل على الكيانات الفصائلية والحزبية كالمضي في طريقٍ إلى سراب، بالنظر إلى خشبيّتها ويباسها الموصوفيْن. كما صار مؤكّدا بوضوح أيضا أن مبادرات نشطاء التشكيلات المجتمعية والأهلية المدنية الفلسطينية وشبكاتها تنجز نجاحاتٍ ظاهرةً في غير موضع وشأن. والمرجوّ، في هذا السياق، أن ترى التوصية التي يُنهي بها "ائتلاف أمان" تقريرَه سبيلها إلى التحقق: أن توحد منظمات المجتمع المدني جهودها، عبر استحداث آليةٍ دائمةٍ لتعزيز المساءلة المجتمعية للسلطة القضائية، على أساس مبدأ استقلال القضاء .. ليت وعسى.