البديل السياسي المدجّن
أثارت إحدى المرشّحات الشابات لانتخابات مجالس المحافظات العراقية المقبلة، في منشور لها على صفحتها في "فيسبوك" سخرية المتابعين، لأنها ادّعت أنّ المرشّحات الأخريات يسرقن وضعياتها الخاصة في التصوير. وهي تقصد الوضعيات التي تتّخذها أمام الكاميرا، كما هو الحال مع المؤثّرات على مواقع التواصل ممن اصطُلح على تسميتهن "الفاشنستات" اللائي يروّجن منتجات التجميل أو الملابس النسائية.
والحال أنّ المسافة التي تُنشئ المفارقة، وربما السخرية، كبيرة ما بين تلك التي تسعى إلى الانتشار لغايات النجومية الشخصية أو العمل الترويجي والدعائي على مواقع التواصل، والعمل السياسي الجاد. لكن هذه المفارقة غير حاضرة في وعي هذه المرشّحة في ما يبدو. هذه الحادثة، مع حوادث أخرى، تكشف بوضوح عن نمط محدّد من الشباب المرضي عنهم والمقبولين، في الفضاءين السياسي والمجتمعي، بديلاً عن الشباب الثوري الذي أخرجته في العراق انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) 2019.
هذه النوعية مروّضة ومدجّنة، تقبل اللعب في المساحات التي تحدّدها لها الأحزاب والتيارات السياسية الكبيرة، فهي لا تملك وعياً بالبديل السياسي، ولا تصوّراً نقدياً تجاه المشهد السياسي والأمني والاقتصادي، ولا تفكّر بإزاحة (أو القضم من مساحة) الأحزاب المسيطرة، ولا تريد أن تكون بديلاً عنها، وإنما أن تحظى بفرصة أن تكون ضمن منصّة أعلى من نشاطاتها الاجتماعية السابقة، فيها "برستيج" ونجومية، وربما أموال ومصالح يوفّرهما النشاط السياسي.
في واقع الحال، غالبية الناشطين في المرافق والمؤسّسات السياسية، من برلمان ومجالس محافظات، هم من هذه النوعية، فما عدا سياسيين لا يتجاوزن عدد أصابع اليدين، هم الصانعون الحقيقيون للمشهد السياسي في العراق، فإن الآخرين هم أتباع ينفّذون أوامر الزعماء، ولا يساهمون في صنع السياسات. كما أن تركيبة هذه الأحزاب والتيارات السياسية تمنع ترقّي الناشط السياسي كي يتولّى مناصب أو مسؤوليات أعلى، بحكم الخبرة والكفاءة أو الموهبة، فتحديد الزعماء يخضع لاعتباراتٍ أخرى، فغالبية التيارات السياسية العراقية لا تعتمد الديمقراطية منهجاً داخلياً في عملها.
الإقرار بالزعامة والتأثير المطلق لبعض الأسماء السياسية يفرّغ عمل الآخرين من محتواه. بمن فيهم من أتباع، أو أسماء طرحت نفسَها في المواسم السياسية السابقة أنها مستقلّة، أو ليبرالية ومدنية، ومشهد البرلمان العراقي الحالي يوضّح بشكل جلي حدود حركة المستقلين والمدنيين ومساحتها، فهي لا تتخطّى حدود ما يصنعه زعماء الأحزاب المسيطرة. أما المشاغبون فإنهم يتعرّضون للمضايقة أو التسقيط أو حتى التهديد بالتصفية، ما جعل كل المعارضين للأحزاب الكبيرة مجرّد حضورٍ شكليٍّ غير مؤثر داخل البرلمان. وهو الحضور المتوقّع للمستقلين والمدنيين والليبراليين من الشباب والتيارات السياسية الجديدة في مجالس المحافظات المقبلة، والتي يخمّن متابعون كثيرون أن الأحزاب الكبيرة ستهيمن عليها أيضاً.
في كلّ الأحوال، سيزاحم الشباب القادم من ساحات تشرين شبابا مروّضا، يشبه "الفاشنستا السياسية" التي تحدّثنا عنها، وربما تدعم الأحزاب المسيطرة هذه النوعية من المرشّحين، فهم الشباب المرضي عنهم، والذين تحتاجهم الأحزاب الكبيرة كي تجمّل صورة المشهد السياسي، وتقول بعدها إنها أعطت مساحة للشباب، وربما سمّتهم تشرينيين كي تسحب البساط من التشرينيين الحقيقيين.
انسحاب التيار الصدري، كما هو معلن، من انتخابات مجالس المحافظات، سيعمّق هيمنة الأحزاب الحالية المسيطرة، ويضيّق أكثر على "البديل السياسي" الذي يمكن أن يطرحه الشباب، فتوازن القوى ما بين الكيانين الكبيرين اللذيْن يمثلهما التيار الصدري مع قوى "الإطار التنسيقي" يوسّع مساحة الهامش ما بينهما، ويترك حريةً للحركة للأحزاب والكيانات الصغيرة.
المقاطعة ليست حلّاً، ويجب احترام خيار الجادّين والمخلصين من السياسيين الشباب من التيار المدني، ويجب أن يكون هناك تنسيقٌ بالرؤى، في الحدود الدنيا على الأقل، ما بين المدنيين المقاطعين والمشاركين في هذه الانتخابات، حتى لا تشكّل المشاركة مناسبة لانقسامات جديدة في صفوفهم.
سيوفّر حضور البديل السياسي الحقيقي في مجالس المحافظات فرصة للتمرين على العمل المؤسّسي، وأيضاً فرصة للتواصل المباشر مع المواطنين، وتكوين رصيد سياسي للانتخابات البرلمانية المقبلة. على الرغم من الإقرار بأنّ الأحزاب الكبيرة لن تترك هامشاً كبيراً لمعارضيها في الحركة، لكن العمل السياسي نوع من المغامرة والصراع، ولا توجد فيه مسلّمات نهائية، ويجب أن تبقى فكرة البديل السياسي الحقيقي حاضرةُ وحيّة، فاليأس ليس حلاً.