البحر الأحمر والتصعيد في اتجاهات عديدة
لأشهر، استقرت معادلة الصراع في البحر الأحمر عند مربع تصدّي الولايات المتّحدة وشركائها الغربيين لهجمات جماعة الحوثي على السفن، فيما واصلت الجماعة عملياتها في ممرّات الشحن الدولية، الأمر الذي كرّس حالة طبيعية من استقرار العنف في البحر الأحمر، مقابل بقاء التهديدات، فبعد أشهر من استهدافها القدرات العسكرية للجماعة، فشلت الولايات المتّحدة في تأمين حركة الملاحة، وهو ما أكدّ قصور استراتيجيتها في التعامل مع تهديد طويل الأمد، مثل تهديد الجماعة، بما في ذلك عدم قدرتها على رفع مستوى التنسيق العملياتي، سواء مع شركائها في الاتحاد الأوروبي أو حلفائها الإقليميين من الدول المُطلّة على البحر الأحمر، وانضاج رؤية أمنية مشتركة لتعزيز الأمن البحري، ومع تباين مستوى هجمات الجماعة من وقت إلى آخر، فإنّها لم تستطع جرّ قوى حليفة، أو شريك محلّي، إلى معركتها البحرية ضدّ إسرائيل وحلفائها الغربيين لإسناد المقاومة الإسلامية في عزّة، بيد أنّه ومنذ مطلع مايو/ أيّار المنصرم، بدأ الطرفان استكشاف أدواتٍ جديدة لتحسين شروطهما في إدارة المعركة، فمن جهة، سعت الإدارة الأميركية إلى تنويع خياراتها لمواجهة الجماعة بإجراءات مُتعدّدة، من توسيع عملياتها العسكرية في اليمن، وتشبيك تحالفات إقليمية لردع الجماعة، ودفع خصومها لخنقها اقتصادياً، فيما كثّفت الجماعة هجماتها البحرية، ودشّنت مرحلة جديدة من التصعيد العسكري باستهداف السفن المتّجهة إلى الموانئ الإسرائيلية في البحر الأبيض المتوسّط، إضافة إلى تصعيد هجماتها في النطاقات البحرية التقليدية.
بموازاة التحدّيات التي تواجهها الإدارة الأميركية لتأمين الممرات المائية في منطقة الشرق الأوسط، وبشكل خاص في جبهة مضطربة كجبهة البحر الأحمر، واجهت عبئاً في تحشيد مواردها العسكرية إلى المنطقة، وتوظيفها للدفاع عن مصالحها الحيوية، وخفض مستوى التهديدات التي تواجهها، يضاف إلى ذلك، محاولة موازنة استراتيجيتها الدفاعية بتثبيت علاقة تحالفية مستقرّة مع شركائها في الخليج، لمواجهة التهديدات الناشئة عن تداعيات الحرب في قطاع غزّة، ويأتي تأمين الملاحة في البحر الأحمر في مقدّمتها، إلا أنّ من الصعب التعويل على استراتيجية أمنية تتعاطى مع مشكلات سياسية مختلفة في الشرق الأوسط، بالأدوات نفسها، وإذا كان تحجيم الحرب في غزّة، والضغط على حليفها الإسرائيلي باتا مُهمّة صعبة بالنسبة للإدارة الأميركية، فإنّ استمرار أزمة الملاحة في البحر الأحمر، فرض على الإدارة الأميركية تحسين أدوات معالجتها للمشكلة، لا حلّها بالطبع، فمع محدودية تأثير هجمات الجماعة على الاقتصاد العالمي، أضرّ طول أمد أزمة الملاحة في البحر الأحمر، ولا يزال، بسلاسل التوريد الغذائية والوقود، وأعاق تدفّقات الطاقة إلى الأسواق العالمية، ورفع نسبة أجور الشحن التي وصلت في الربع الأول من العام الحالي إلى 160%، ناهيك عن أنّ الوضع الأمني في البحر الأحمر أحدث حالة طبيعية أدّت إلى انخفاض حركة الملاحة، ومن ثمّ، تكريس وضعٍ بحري جديد، كما أنّ بقاء تهديدات الجماعة على ممرّات الملاحة من البحر الأحمر إلى خليج عدن والبحر العربي والمحيط الهندي يعني استمرار العمليات العسكرية الأميركية للتصدي لهجماتها، وبالتالي رفع كلفة عملية التأمين والدفاع والحماية، فمع اعتمادها على أسطولها الخامس، الذي يشمل نطاق عملياته العسكرية الممرات المائية اليمنية، إلى جانب قوّات حماية الازدهار، التي شُكّلت لغرض تأمين الملاحة من هجمات الجماعة، فإنّ بقاء المُدمّرات الأميركية على الحدود المائية اليمنية، أو تناوبها، ضاعف الكلفة المالية لعملياتها من دون القدرة على وقف تهديدات الجماعة، مقابل صعوبة توطينها لأسباب عديدة، ومع أنّ القيادة المركزية الأميركية لجأت إلى خيارات تكتيكية لتحجيم قوة الجماعة من توسيع نطاق عملياتها في اليمن، وتنويع بنك أهدافها، إلى محاولة ترتيب تفاهمات مع جيبوتي، تسمح باستخدام أراضيها لاستهداف مواقع الجماعة، فإنّ استمرار هجماتها على السفن زعزع إلى حدّ كبير من فعّالية الردع الأميركي، وقدرته على حماية حرّية الملاحة.
تحدّيات الاستراتيجية الأميركية لا تقتصر على عدم مضمونية نتائجها في كبح الجماعة، بل الاستمرار في مفاقمة التدهور الإنساني في اليمن، وأيضاً، التسبّب في قتل مدنيين يمنيين
في مواجهة تهديدات جماعة الحوثي على الملاحة في البحر الأحمر، ركّزت الاستراتيجية الأميركية على الخيار العسكري في المقام الأول. وأيضاً، على توسيع شراكتها البحرية مع حلفائها في منطقة الخليج لتأمين البحر الأحمر، إلى جانب الضغط على جماعة الحوثي اقتصادياً، ففي حين استمرّت عملياتها العسكرية في اليمن، مع حليفها البريطاني، فإنّ غاراتها شملت نطاقات جغرافية متعدّدة، بقصف المدن الخاضعة للجماعة، واستهداف منشآت مدنية متعدّدة من المطارات إلى المنازل ومؤسّسات الدولة، ومن ثمّ، عدم تجنيب الأعيان المدنية هجماتها، حيث أسفرت الغارات الأميركية البريطانية على مدينة الحديدة في الثلاثين من مايو/ أيار 2024 عن مقتل أكثر من 16 يمنياً، وإصابة العشرات، بحسب آخر إحصائية، ومن جهة ثانية، حرصت الإدارة الأميركية، من خلال مظلّاتها العسكرية المُتعدّدة في المنطقة، على توسيع شراكاتها البحرية مع حلفائها الإقليميين في الخليج لتأمين حركة الملاحة، وتنوّعت بين تنفيذ القوات المشتركة عملية "الغضب العارم" (2024)، التي استضافتها السعودية، بمشاركة القوت البحرينية والسعودية والأردنية، وتنسيق العمليات البحرية لمواجهة تهديدات جماعة الحوثي في البحر الأحمر، رافقه لقاءات أمنية أميركية - خليجية، شهدتها الرياض، لتفعيل أطرٍ عسكرية وأمنية واستخباراتية لتأمين الملاحة، يضاف إلى ذلك، تنفيذ الفرقة 151، التابعة للقوات المشتركة الأميركية، عملية حرّية البحار في غرب المحيط الهندي وخليج عدن، لمراقبة القرصنة، وإعاقة شبكات التهريب، إلى جانب تدريب خفر السواحل اليمنية، من القوى المحلّية المتحالفة مع السعودية على الأمن البحري، فضلاً عن محاولة دفع التفاهمات الأمنية مع الرياض في ما يخصّ أمن البحر الأحمر إلى تشكيل فريق عمل بحري مشترك في المستقبل يقوم بمهمات أمنية وعسكرية لتقييد نشاط الجماعة في المدى البعيد، ومن ثمّ، خطوة أولى في هندسة أمن منطقة الشرق الأوسط، بدءاً من البحر الأحمر، يضاف إلى ذلك، وهو الأخطر، أن عمدت الإدارة الأميركية إلى الضغط على جماعة الحوثي اقتصادياً، وإن كان بشكل غير مباشر، من خلال تحريك ورقة نقل البنوك والمصارف من مدينة صنعاء إلى عدن، الخاضعة للمجلس الرئاسي، ومن ثمّ، ضرب القطاع المصرفي للجماعة، ووقف التعاطي مع عملتها في المناطق الخاضعة للرئاسي، إلا أنّ تحدّيات الاستراتيجية الأميركية لا تقتصر على عدم مضمونية نتائجها في ما يخصّ كبح الجماعة، بل الاستمرار في مفاقمة التدهور الإنساني في اليمن، وأيضاً، التسبّب في قتل مدنيين يمنيين بغاراتها على مواقع الجماعة، إلى جانب أنّها قد تدفعها إلى تبنّي تصعيدٍ عسكري مقابل، كما أنّ تباين رؤى الدول المُطلّة على البحر الأحمر بخصوص وسائل تأمين الملاحة يحدّ من فعالية الاستراتيجية الأميركية، بما في ذلك شريكها السعودي، الذي لن يغامر في استعداء الجماعة الذي يحوّله إلى هدفٍ عسكريّ مباشر.
مع أنّ جماعة الحوثي حذّرت من ضلوع السعودية في الإجراءات العقابية، وتوريطها من قبل أميركا، فإنّ الجماعة تضع نفسها في مرمى قوى عديدة قد تنال منها.
في المقابل، تتحرّك جماعة الحوثي في مسار تصعيدي يهدّد ممرات الشحن الدولية في النطاقات المائية في مدى صواريخها الباليستية ومُسيّراتها للدفاع عن المقاومة الإسلامية في غزّة، والضغط على إسرائيل وحليفها الأميركي، بحسب أهدافها المعلنة، إلا أنّ استمرار هجماتها على السفن أدّى إلى خفض حركة الملاحة في البحر الأحمر وتجنّب السفن المرور عبر مضيق باب المندب، حيث فقدت معركتها البحرية دافعيتها، فضلاً عن العشوائية في تحديد الأهداف، إذ استهدفت صواريخها سفناً مُرتبطة بحليفها الإيراني، آخرها سفينة "لاكس"، التي كانت مُحملّة بحبوب ومتجهة إلى إيران، إضافة إلى استهدافها، في حوادث متفرقة، خطوط تمويل اقتصادية قادمة من الصين وروسيا، بما في ذلك تسبّبها بكوارث متعدّدة، من غرق السفينة روبيمار، التي قد تتسبب بكارثة بيئة في البحر الأحمر، إلى تعطيل ثلاثة كابلات إنترنت، ناهيك عن الآثار الاقتصادية لأزمة الشحن على اليمن، إلا أنّ الجماعة دشّنت المرحلة الرابعة من التصعيد العسكري بتوسيع نطاق عملياتها من البحر الأحمر والممرات المائية التي تنشط فيها إلى البحر المتوسط، واستهداف السفن المُتّجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، كما أعلنت في نهاية مايو تنفيذ عمليتين في البحر المتوسّط، منها استهداف سفينة منيرفا أنتونيا، بحسب إعلامها الرسمي، يضاف إلى ذلك تنامي هجماتها في البحر الأحمر، وإسقاطها ثلاث طائرات أميركية مُسيّرة في مناطق مختلفة في اليمن، إلا أنّ تصعيد هجماتها على ممرات الملاحة يفرض عليها تحدّيات أكثر خطورة اقتصادياً، وعسكرياً، وسياسياً أيضاً، إذ إنّ استهداف قطاعها المصرفي بعد تصاعد هجماتها على الملاحة، وتقييد عملتها المحلّية في مناطق خصومها، الذي اعتبره زعيم الجماعة عقاباً أميركياً لانخراطها في الدفاع عن غزّة، يعني ضرب اقتصادها وإضعاف سلطتها، ومع أنّ الجماعة حذّرت من ضلوع السعودية في الإجراءات العقابية، وتوريطها من قبل أميركا، فإنّ الجماعة تضع نفسها في مرمى قوى عديدة قد تنال منها. ومن جهة ثانية، فإنّ عملياتها في البحر المتوسّط، قد تؤدّي إلى تشتيت مواردها العسكرية، وتعرّض الصفّ الأول من قياداتها في البحرية والصواريخ لاستهداف القوات الأميركية - البريطانية، كما أنّ توسيع مسرح عملياتها إلى منطقة بحرية جديدة يعني التعامل مع واقع جيو سياسي مختلف، سواء في مستوى الفاعلين الإقليمين وحلفائهم، أو في مستوى النتائج، ناهيك عن كونها خارج نطاق سيادتها البحرية، وإذا كانت عملياتها العسكرية في البحر الأحمر قد أدّت إلى تضرّر الدول المُطلّة عليه؛ مصر والسودان وإريتريا، فإنّ توسيع هجماتها إلى البحر الأبيض المتوسّط، وفي ظلّ التداعيات الاقتصادية لأزمة الشحن العالمية، التي تسبّبت بها، يعني مضاعفة القوى المُتضرّرة من عملياتها العسكرية، ومن ثم زيادة خصومها، كما أنّها ستساهم بتوسيع رقعة الصراع البحري، ومن ثمّ، قد يؤدّي إلى تشكيل تحالفات أمنية إقليمية لمواجهة تهديدات الجماعة، وفي ضوء معركة مستمرّة من الردع والعقاب من أميركا وحلفائها، في مقابل استمرار الجماعة بتهديد الملاحة، فإنّها، وإن تبنّت منطق "التصعيد، بالتصعيد"، ردّاً على الغارات الأميركية - البريطانية، إلّا أنّها تقامر باجتياز خطوطٍ حمراءَ من دون موازنة حساباتها.