الأستاذ محروس نننّس
هل يمكن مقاربة الشأن المصري، الآن، من دون اللجوء إلى الكوميديا السوداء. كذب المُحلّلون ولو صدفوا، أيّ تحليل من دون معلومات؟ وأيّ معلومات من دون شفافية؟ وأيّ شفافية من دون أكفّاء يديرون دولة، لا هواة ومُجرّبين يديرون شبه دولة أو "أيّ حاجة"؟
هل شاهدت فيلم "الكيف" (إنتاج 1985، إخراج علي عبد الخالق)؟... أرجوك! لا تفوّته، وإذا كنت قد شاهدته فشاهده مرّة أخرى، وفي يدك ورقة وقلم لكتابة ملاحظاتك. قد يُؤخذ على الفيلم بعض الوعظيّة، خاصّة في نهايته، كما أنّ شريط الصوت ليس جيداً، لكنّه "سينما"، كما يقول الكتّاب، كما أنّ مشاهدته الآن تضمن لك المُتعة، والتعرّف إلى المجتمع المصري في الثمانينيات، ومعرفة ما جرى له، في عهدي أنور السادات وحسني مبارك، ثم الأستاذ "محروس نننّس"، وهنا بيت القصيد، فالأستاذ محروس (لا يجوز لك أبداً نطق اسمِه مُجرّداً)، هو شخصية العصر في مصر، رصدها السيناريست محمود أبو زيد في الثمانينيات، حين كانت في بدايات التشكّل، والظهور، والانتشار، وقبل أن يتحوّل الأستاذ نننّس إلى القاعدة وكلّ ما سواه استثناء، ليس استثناءً فحسب، وإنّما استثناء غير وطني، ومتآمر على مصر، في حديث الدعاية السياسية، واستثناء مثير للشبهات ومروّج الإلحاد، في حديث الدعاية الدينية، كما أنّه استثناء مُحنّك، ولا يملك سوى التنظير الفارغ، في حديث الإحباط العام من النخب والمُثقّفين. فإمّا أن يكون المصري الأستاذ محروس نننّس، أو لا يكون. وأهم صفات الأستاذ محروس ثقته في نفسه، وفي عبوسه، وفي نظّارته، وفي كلماته، وأفكاره، وأشعاره، ومكانته، وإسهاماته. شخصية "نننّس"، في "الكيف"، شاعر غنائي، في زمن انحطاط الأغنية، يقدّم نفسه باعتباره مختلفاً، حقيقياً، ليس من هؤلاء الذين يكتبون "أيّ كلام"، إذا جلس ليقرأ أشعاره، استغرق الأمر دقائق، قبل أن يبدأ، فالموضوع كبير، يفتح حقيبته، يُخرج أوراقه، يضع نظّارته، يعتدل في جلسته، يتقمّص نفسه، ثم يقول: "يا صبر صبصب قلوب الصبايا المتــصابين/ وصوب صبابك على الصبايا المصبصبين/ يا صابر الصبر/ صبّرنا بصبر المتصبرين". يكتشف المشاهد أن الأستاذ محروس لا هو أستاذ ولا هو محروس، وأنّه "أراجوز"، مثل غيره، لكنّه يُفاجَأ بأنّ المطرب مزاجنجي (محمود عبد العزيز) يرفض الأستاذ نننّس لسببٍ آخر، وهو أنّه عميق زيادة عن اللزوم، فيما يريد مزاجنجي أن يُغنّي كلمات تافهة لينجح. هنا، تكتمل المأساة. مأساة البلد، ونخبها، وفنّانيها، ومن يعيشون فيها، ولا يسعهم إلا أن يكونوا "نننّس"، وإلا...
يساعدك نننّس في فهم كلّ ما تراه على الشاشات المصرية. في الخطابات السياسية، نننّس هو البطل، هو الدليل، هو المُنقِذ. في الجدالات الدينية راقب معي أداءات التنويريين والتراثيين، مركز تكوين وتحصين وأزاهرة الفضائيات ويوتيوب ووعّاظ السوشيال ميديا، راقب جيداً، ولا تنخدع مثل مزاجنجي، وستكتشف أنّ هؤلاء جميعاً أبناء "نننّس". ثقة الباحثة التنويرية المُتخصّصة في السيرة النبوية، وهي تتحدّث عن ولدَي السيدة خديجة، هند وهالة، الذكور، باعتبارهما إناثاً، ليس ثقتها في الخطأ الذي يدلّل أنّها لم تقرأ كتاباً واحداً في السيرة، إنّما ثقتها في حديثها عن أنها "مُتخصّصة"، هي هي ثقة الأستاذ نننّس، وهو يدّعي أنّ مطرباً كبيراً يلاحقه، ويوشك أن يموت لهفة ليحصل على أغنيته. ثقة أسامة الأزهري وهو يطلب مناظرة كلّ أعضاء "تكوين" ومعهم زاهي حواس، فوق البيعة، لن تذكّرك سوى بـ "نننّس"، وهو يطلب آلاف الجنيهات ثمناً لكلماته. كلام يوسف زيدان وفراس السواح عن طه حسين، شرح الكتائب الإلكترونية لفوائد غلاء الأسعار، وقطع الكهرباء، ورفع الدعم، تحليلات سمير راغب وعماد جاد مع عمرو أديب، خطابات "الوطنجية" في حبّ مصر والجيش، وكراهية السودانيين و"اللاجئين" سبب خراب البلد.
تقول الأسطورة إنّ كلّ شيء في مصر كان يشبه جمال عبد الناصر، في زمانه، فإذا مددنا خطّ الشر على استقامته، فربّما فهمنا لماذا يشبه كلّ شيء في مصر، الآن، الأُستاذ محروس نننّس.