"الانقلابات الديمقراطية" واستبدادها
مطلع هذه الألفية، صاغ أوزان فارول، وهو أستاذ جامعي تركي في جامعة كنت في الولايات المتحدة، مفهوما سياسيا أطلق عليه "الانقلاب الديمقراطي"، لخص فيه ما اعتبرها خطوة نحو الحكم المدني، من خلال تحرّك عسكري يزيح الحاكم المستبد الذي لا يمكن إخراجه من السلطة بالوسائل المدنية التقليدية، مثل الانتخابات وما تعرف بالآليات الديمقراطية التقليدية.
تذكّرت ذلك الطرح الجريء مع عودة موجة الانقلابات أخيرا إلى أفريقيا. ففي أسابيع قليلة، وقع انقلابان في القارّة السوداء، النيجر وبعدها الغابون. وخلال العامين الماضيين، شهدت القارّة انقلابات عدة على حكام تمترسوا في السلطة أعواما كثيرة من دون أي أفق واضح لتداول السلطة أو منح المواطنين قدراً من حرية التعبير والمشاركة. في عام 2021، وقعت ست محاولات، نجحت أربع منها. وفي العام الماضي (2022)، حدث انقلابان ناجحان في بوركينا فاسو. وفشلت ثلاثة أخرى، في غينيا بيساو وغامبيا وجزيرة ساو تومي وبرينسيبي. أما السودان فحالةٌ فريدةٌ جديرةٌ بالتحليل، إذ يحمل تاريخاً طويلاً من الانقلابات منذ منتصف القرن الماضي، ويقدّم لنا نماذج مختلفة إلى حد التناقض. ففي 2019، حدث انقلاب على عمر البشير الذي كان جاء بانقلاب. ثم استأثر مجلس السيادة تحت قيادة عبد الفتاح البرهان بالسلطة في أكتوبر/ تشرين الأول 2021. وفي إبريل/ نيسان الماضي، وقعت محاولة انقلاب قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) باندلاع مواجهات مسلحة بين هذه القوات (أو المليشيا) والجيش السوداني. لكن السودان كان قد قدّم أيضاً النموذج العكسي، وهو الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، الذي تولى السلطة عام 1985 إثر الانقلاب العسكري على الرئيس الأسبق جعفر نميري. ووفى عملياً بوعده بمغادرة السلطة، إذ سلّمها لحكومة مدنية منتخبة بعد عام. وجسّد الرجل حالة استثنائية لتخلي العسكريين عن السلطة طوعاً.
عدا عن سوار الذهب، ذاك الاستثناء السوداني، اختارت أفريقيا لنفسها نموذجاً في الانقلابات مختلفاً عن الطرح التقدّمي الذي جاء به فارول. إنه نموذج الانقلاب على الانقلاب، حيث تبدأ السلسلة بانقلابٍ على حاكمٍ مستبدٍّ متشبثٍ بالسلطة إلى الأبد، ومع انتقال الاستبداد والفساد إلى النخبة العسكرية الحاكمة، ثم منها إلى النخبة المدنية المحيطة، والتي غالباً ما تتولّى إدارة مؤسّسات الدولة، يحدُث انقلاب جديد على ذلك الأول. وبغض النظر عن الفترة الفاصلة بين كل انقلاب وآخر، المهم أن من يرفض الاستبداد، أو هكذا يدّعي، سرعان ما يمارسه أو يُصاب به. كما لو كانت أمراض السلطة، خصوصاً الالتصاق بالكرسي، شديدة العدوى.
وفي المقابل، ليس من الوارد أن يتنازل أولئك الحكّام "المزمنون" طواعية عن السلطة، عسكريين كانوا أو مدنيين، فلو كان أحدُهم سيتخلى عن الحكم لما تمسّك به أعواماً وأعواماً، فلا سبيل لإخراجه منها سوى بواسطة المؤسّسة التي تملك القوة، وتستطيع إجباره على الانصراف سلماً أو رُغماً. فببساطة، لا طرف غير المؤسّسة العسكرية يملك إرغام أي حاكم على ذلك، خصوصاً إذا كان هو نفسه قد وصل إلى كرسي الحكم بالطريقة ذاتها. إذ لا يمكن دفع القوّة إلا بمثلها، ومن أتى على دبابة لا يغادر إلا من خلالها.
المثير للدهشة أن العسكريين الذين يطيحون الحكام ويتهمونهم بالفساد، بل والخيانة العظمى، كانوا تحت إمرة هؤلاء "الفاسدين الخونة" أعواما وربما عقودا. أي كانوا شركاء في الحكم اياً كانت الأدوار أو المناصب. لكنهم دائماً يبرّرون ذلك التقاعس بالتريّث أملاً في تحسّن الأوضاع أو تغيير سياسات الحكم. وحين ينقلبون ويتولون زمام الأمور، لا تتغيّر السياسات ولا تتحسّن الأوضاع. وينتهي الحال بتلك الانقلابات "الديمقراطية" أن تصبح غير ديمقراطية، فلم كانوا يقومون بها؟