الانتخابات الفلسطينية .. ثلاثة مداخل للتغيير

12 ابريل 2021
+ الخط -

في غمرة التخاصم الانتخابي، والانشقاقات والتشرذمات والمحاصصات المتولدة، وتزاحم القوائم للانتخابات التشريعية الفلسطينية المزمع عقدها في أواخر مايو/ أيار المقبل، يتولّد انطباع لدى مراقبين ومحللين كثيرين بأنّ الانتخابات، بشكلها الحالي والبيئة المحيطة بها، ستقود إلى التغيير. ويذهب بعضهم إلى ما هو أبعد من ذلك، ليحاجج بأنّها الطريق إلى الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام الداخلي الفلسطيني. إلاّ أننا لا نملك أيّ معطيات أو مؤشرات تدلّ على ذلك، ففي أفضل الأحوال، قد تُسفِر هذه الانتخابات المزعومة عن "ديمقراطية صورية"، لا تغير هياكل القمع والاستبداد والتشرذم المتجذّرة. لكن، ألا يمكن استثمار "اللحظة الديمقراطية" الراهنة من أجل الانخراط في عملية تغييرية لما بعد هذه اللحظة الانتخابية؟ أحاجج هنا أنّ مثلث "المعاقبة، والرفض، والفعل" يمكن أن يوفر بعض الإجابات والخيارات لهذا التساؤل.
الضلع الأول من هذا المثلث معاقبة صارمة لحركتي فتح وحماس، بعدم التصويت لأيّ منهما في الانتخابات التشريعية المزعومة المقبلة، فحجم الضرر والأذى الذي تسببت فيه الحركتان، بكلّ أذرعهما وتشققاتهما وتمثلاتهما السياسية، قد أصاب الحركة الوطنية الفلسطينية في مقتل، وأنهك المشروع الوطني التحرّري الفلسطيني، وزاد من الشرذمة العمودية والأفقية على مدار الأعوام الخمسة عشر الماضية. وعليه، آن الأوان لمعاقبة صارمة للحركتين، لعبثهما بالحياة الآنية والمستقبلية للفلسطينيين والفلسطينيات.

الفرصة مواتية للمعاقبة، وعدم انتخاب أيّ من "فتح" و"حماس" في خطوة محورية في المعاقبة والمساءلة والمحاسبة الشعبية لكلتا الحركتين

أسوأ ما يمكن أن تفرزه الانتخابات المزعومة المقبلة هو إعادة إعطاء "الشرعية الانتخابية" لكلتا الحركتين بانتخابهما، لأنّ ذلك سيقوّي شوكتهما وسلطويتهما، وسيرزح الفلسطينيون في مأزقهم الحالي سنوات مقبلة. الفرصة مواتية للمعاقبة، وعدم انتخاب أيّ منهما (أو أفرعهما) في خطوة محورية في المعاقبة والمساءلة والمحاسبة الشعبية لكلتا الحركتين. بالطبع، ستلجآن إلى كلّ الأساليب لإقناع الفلسطينيين بأنّهما "حماة المشروع الوطني" بالاستناد إلى "خطاب المقاومة" أو "خطاب بناء الدولة"، لكنّ الفرصة مواتيةٌ لتعرية كلا الخطابين ومَشكلة فكرة "حماة المشروع الوطني" لأنّها لا تشكل سوى غطاء بائس ومفلس لكلّ الضرر والأذى الذي أصاب الفلسطينيين، بسبب أفعال الحركتين. الإدلاء والتصويت بـ"لا" واضحة وعالية أمام الحركتين، عبر صندوق الاقتراع على الرغم من كلّ علاّته، فعل مقاوم حقيقي من أجل المساهمة في العملية التغييرية الإيجابية.
لا يقتضي المضي في خطوة المعاقبة أعلاه بالضرورة أن يصوّت الفلسطينيون والفلسطينيات لقوائم أخرى في الانتخابات المزعومة؛ "فالأوراق والأصوات اللاغية" يمكن أن تشكل الضلع الثاني من هذا المثلث التغييري، وتشكل خطوة هامة لبناء فعل سياسي قادم تغييري، وديمقراطي في جوهره. وكلّما كثرت هذه "الأوراق والأصوات اللاغية" تعزّز ثقل النهج التغييري.

لنتخيّل سيناريو يقوم به الفلسطينيون بالتصويت بغزارة بأوراق وأصوات لاغية تفيد بـ"لا لفتح ولا لحماس ومشتقاتهما"

مثلا، لنتخيّل سيناريو يقوم به الفلسطينيون بالتصويت بغزارة بأوراق وأصوات لاغية تفيد بـ"لا لفتح ولا لحماس ومشتقاتهما"، و"لا لنظام سياسي بائس"، و"لا لتقزيم إضافي لمنظمة التحرير"، و"لا للفساد"، و"لا للانقسام". ومع كثرة اللاءات الواثقة في هذه المرحلة، تتعزّز الأصوات الرافضة في فعل مقاوم يعرّي السلطات والأحزاب الحاكمة، ويرسل رسالة واضحة مفادها "كفى عبثاَ بمشروعنا الوطني وبمستقبلنا". وهذا بالضرورة يشير إلى رفض جوهري لمنظومة اتفاق أوسلو وإطاره، وإلى رفض الخنوع للنظام السياسي والحاكمي القائم.
ماذا لو صوّت ثلث الفلسطينيين والفلسطينيات بأوراق لاغية، تفيد في جوهرها رفضاً قاطعاً "للنظام"؟ عندها سنكون أمام مرحلة مفصلية حقيقية، يمكن لقيادة فلسطينية جديدة فعالة البناء عليها، والمضي بإصلاح وإعادة إنشاء النظام السياسي والحاكمي الفلسطيني نحو نظام جامع تقدّمي تحرري.

الفعل الجماعي الرافض والمشتبك يتطلب تعرية السلطات أمام الجماهير، باعتبار هذا الأمر خطوةً استباقية للتغيير

الضلع الثالث من هذا المثلث التغييري يشكله صندوق الاقتراع، على الرغم من كلّ علاّته، واللحظة الديمقراطية الراهنة، وهي أبعد ما تكون عن أيّ عملية ديمقراطية حقيقية؛ إذ إنّهما يوفران فرصة جديدة لتعرية السلطات والاشتباك معها، فالفعل الجماعي الرافض والمشتبك يتطلب تعرية السلطات أمام الجماهير، باعتبار هذا الأمر خطوةً استباقية للتغيير، واستخدام هذه اللحظة الديمقراطية من أجل مشاركة الشارع والمجتمع علاّت النظام السياسي والحاكمي الفلسطيني التي يعيشون ويلاتها. سيوفر ذلك فرصةً لتغيير انطباعات الناس وتوجهاتهم وآرائهم، والتي ستقود، بالضرورة، آجلاً أم عاجلاً، إلى تغيير فعلهم على الأرض. فكما حاججت سابقاً، أضحى الفلسطيني مجرّد مراقب لهمّه وقضيته كالغريب، وغير قادر على التأثير في ما يحصل الآن، أو ما سيحصل في المستقبل. يشكل شعور الغربة في الوطن والاغتراب عن النظام السياسي واحداً من أشكال القهر المضاهي لذلك القهر المتولد من الاحتلال الجاثم على الجسد الفلسطيني، فما نحتاجه اليوم نظام سياسي يحرّرنا، ولا يستعبدنا، فتبيان مواطن الخلل الكثيرة في النظام السياسي والحاكمي الفلسطيني، وتبيان مدى انفصال الشعب عن نظامهم السياسي وتهميشهم، وتبيان أثر ديمومة استمرار الفلسطيني "كمتلقٍّ تائه" في نظامه السياسي الفلسطيني، كلّها معطياتٌ يمكن البناء عليها لإيجاد فرصةٍ سياسةٍ جديدة، من أجل التغيير وإعادة امتلاك النظام السياسي والحاكمي الفلسطيني. فعلى سبيل المثال، يمكن فهم وتحليل ما تقوم به، في هذا المضمار والإطار، مبادرة جيل التجديد الديمقراطي (جد)، والتي تسعى، في صُلبها، إلى جسم تنظيمي شبابي، يهدف إلى التجديد الديمقراطي في المنظومة السياسية. وقبل ذلك حركات شبابية فلسطينية عديدة ظهرت (ثم تلاشت) إبّان انطلاق شرارات الانتفاضات العربية، فالبعد التشاركي لهذه الحراكات، والمصاحب لرؤية واستراتيجية مغايرة لما هو سائد حالياً، والمقرون بضرورة بناء قيادة فلسطينية جديدة فعالة مستجيبة شرعية ومحاسبة، هو من الجوانب الجوهرية التي يفتقرها النظام السياسي الفلسطيني السائد، والتي لا غنى عنها في البناء المستقبلي. كذلك، العملية التغييرية الديمقراطية الحقيقية "تُطبخ وتنضج على نار هادئة" تتسلل وفق مراحل منطقية، تُغلّب الفعل المخطط له على ردّة الفعل، وتراكم الفعل والعمل، وتقرن رؤيتها بخطط عملية قابلة للتطبيق بعيداً عن الشعارات الطنانة الرنانة، إذ تبني من الأسفل إلى الأعلى، وتراكم على وعي الجماهير وتوقها للانعتاق، وتضع الجماهير وبوصلتهم وتطلعاتهم في صُلب الفعل.
يتطلب كلّ هذا الفعل، الوقت والديمومة والصيرورة وطول النفس، وبالطبع الاستعداد لمجابهة الانقضاض المضاد، والذي بدوره يتطلب استخلاص العبر والدروس من الخبرات السابقة، خصوصاً في ما يتعلق بكيفية التعامل مع البنى السلطوية والقمعية المتجذّرة، فالتغريد خارج سرب قوائم الانتخابات وزحامها الآن ليس بالعمل الغريب أو الفعل الانعزالي، بل هو فعل جليّ وهام، يؤسّس لمرحلة جديدة لما بعد "ميمعة اللحظة الديمقراطية".

F5CB8409-A449-4448-AD7A-98B3389AADB7
علاء الترتير

كاتب فلسطيني، مدير البرامج في شبكة السياسات الفلسطينية، وباحث في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف. عمل باحثاً ومدرّساً في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية والتي حصل منها على الدكتوراه.