"أوسلو"... 30 عاماً من تشويه السلام

19 سبتمبر 2023
+ الخط -

لا تنفكّ اتفاقات أوسلو، منذ توقيعها قبل ثلاثة عقود، تتحكّم بالمظاهر الرئيسية لحياة الفلسطينيين وموتهم. فقد استُحدثت بموجبها عملياتٌ ومؤسّساتٌ وترتيباتٌ أسفرت عن تحوّلات بُنيوية وأوجه نقصٍ وقصور في المجتمع الفلسطيني، ولا سيما في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة.
على الصعيد المجتمعي، شوَّهت اتفاقات أوسلو المجتمع المدني الفلسطيني، إذ أرست تعريفًا وتصورًا جديدين لركائز العقد الاجتماعي، وأمعنت في تجزئة الشعب الفلسطيني وتقسيمه. وعلى الصعيد الاقتصادي، رسّخت اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على الاقتصاد الإسرائيلي وانضواءَه تحته على نحو غير متكافئ، وأوجدت بذلك اقتصادًا معتمدًا في جوهره على المعونة والمساعدات الدولية ومأسَست عمليةً حرمت الفلسطينيين حقَّهم في التنمية.
وعلى الصعيد السياسي، أدَّت اتفاقات أوسلو إلى هيمنة أنماط الحكم المشخصنة على المقاربات الشاملة والمسؤولة والتشاركية، ما أدّى إلى ازدهار أشكال الفساد البُنيوي المُعزِّزة للذات عوضًا عن إرساء آلياتٍ فعالة لإعمال المساءلة والشفافية، وأدّى أيضًا إلى إبعاد الشعب الفلسطيني عن جوهر النظام السياسي وهياكل الحُكم. وهذه التحولات البُنيوية وأوجه النقص والقصور لم تحدُث عن غير قصد أو عَرضيًّا، بل هي جزءٌ في تصميم اتفاقات أوسلو، وشكَّلت متطلباتٍ أساسية سابقةً لعمليات "السلام وبناء الدولة".

بالرغم من أن اتفاقات أوسلو خذلت الشعب الفلسطيني وشوّهت معنى السلام بالتأكيد، إلا أنها لم تخذل إسرائيل وحلفاءها

ومع ذلك، يأتِي أيلول/ سبتمبر من كل عام ليذكِّرَ الفلسطينيين بأن قيادتهم السياسية مُلتزمة بإطار عملٍ فاشلٍ عفا عليه الزمن  (إطار عمل اتفاقات أوسلو) يُسهمُ في حرمان الفلسطينيين حقوقَهم الأساسية، وأن مفهوم السلام قد اختُزل في عمليات وترتيبات أمنية، حيث إن اتفاقات أوسلو في جوهرها هي ترتيب أمني بين المُحتل والخاضع للاحتلال لاستدامة الوضع الراهن وضمان استمرارية اختلالات القوة القائمة.
وهكذا فإن إطار عمل اتفاقات أوسلو ينتهك حقوق الفلسطينيين، بما فيها حقَّهم في الأمن، ويعزز نظام القهر والسيطرة والقمع متعدّد الطبقات الذي يخضع له الفلسطينيون رغمًا عنهم. وبعد مضي 30 عامًا، بات جليًا أن اتفاقات أوسلو ليست سبيلًا إلى السلام ولا إطار عملٍ يُقرّب الشعب الفلسطيني من إدراك حقه غير القابل للتصرّف في تقرير المصير، بل أضعفت الفلسطينيين وجعلتهم أكثرَ تشرذمًا وأبعدَ عن بناء دولتهم ونيْل المساواة والعدالة والحرية.
غيرَ أن اتفاقات أوسلو لم تفشل تمامًا، فبالرغم من أنها خذلت الشعب الفلسطيني وشوّهت معنى السلام بالتأكيد، إلا أنها لم تخذل إسرائيل وحلفاءها، حيث منحتها إطارًا مدعومًا دوليًا لاستدامة احتلالها وترسيخ سيطرتها الاستعمارية على فلسطين والشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزّة على مدار الأعوام الثلاثين الماضية.
ومن جملة ما جلبته الاتفاقات على الفلسطينيين بيروقراطيةٌ متضخّمة صُمِّمت بطبيعتها لتحُولَ دون اقتراب الفلسطينيين من بلوغ الحرّية وتقرير المصير. ومن أركان هذه البيروقراطية المؤسسة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، والتي تعمل ضمن معايير الترتيبات الأمنية المنبثقة عن اتفاقات أوسلو.

يشتمل النموذج الأمني على آليات التنسيق الأمني سيئ الصيت بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية والرامي إلى ضمان الأمن الإسرائيلي في المقام الأول

يوظِفُ قطاع الأمن التابع للسلطة الفلسطينية والمدعوم بسخاء من جهات خارجية 44% تقريبًا من إجمالي عدد الموظفين العموميين، ويستأثر بنحو مليار دولار من موازنة السلطة الفلسطينية، ويستوعب حوالي 30% من مجموع المساعدات الدولية المصروفة للفلسطينيين. وهذا القطاع الأمني بمؤسساته وهيئاته المتعددة يستهلك من موازنة السلطة الفلسطينية ما يفوق استهلاك قطاعي التعليم والزراعة مجتمعيْن. وتصل نسبة العناصر الأمنية إلى عدد السكان 1 إلى 48 بحسب التقديرات، وهو من أعلى المعدلات في العالم. بالرغم من ذلك كله، لا يُسفرُ هذا الإنفاق عن تحسن الوضعٍ الأمني للشعب الفلسطيني، سيما إزاء السبب الرئيس لانعدام أمنهم، وهو الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بسبب القصور البُنيوي المتأصل في النموذج الأمني للسلطة الفلسطينية المنبثق عن اتفاقات أوسلو.
يشتمل النموذج الأمني على آليات التنسيق الأمني سيئ الصيت بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية والرامي إلى ضمان الأمن الإسرائيلي في المقام الأول. وعلى الرغم من أن نموذج التنسيق الأمني بدأ إبّان العقدين الأولين من عمر السلطة الفلسطينية "كالتزام تعاقدي" انطلاقًا من التدخّلات وخطط إصلاح القطاع الأمني المختلفة المدعومة دوليًا (جميعها بإملاءات من إطار اتفاقات أوسلو ومشتقاته)، إلا أن هذا التنسيق الأمني تحوَّل في العقد الماضي إلى سلوك مؤسسي متجذر وهوية رسمية راسخة وأصبح عقيدةً ثابتة محفورة في أدمغة قيادات السلطة الفلسطينية الحالية والمستقبلية وفي تصوراتهم وتصرفاتهم.
ما انفكت قيادة السلطة طوال هذه السنين تدافع بشراسة عن نظرتها إلى التنسيق الأمني كجسرٍ لمحاربة التطرف والعنف "سيقودنا إلى استقلالنا،" وتُصرُّ على أن التنسيقَ الأمني "جزءٌ لا يتجزأ من استراتيجيتنا للتحرير". غير أن الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني تقف ضد التنسيق الأمني كمنهجية تنتهجها السلطة الفلسطينية ومؤسستها الأمنية. ومع أن قيادةَ السلطة تدركُ هذا الشرخ العميق، إلا أنها غير مستعدّة وغير قادرة على رأب هذا الصدع بخطوات ملموسة تتجاوز الوعود الكاذبة والتصريحات الفارغة، فقد هدّدت السلطة أو أعلنت في أكثر من 60 مناسبة أنها أوقفت التنسيقَ الأمني أو ستوقفه، ولكنها لا تزال منخرطة فيه بالكامل، ولا سيما عند اشتداد التعبئة الشعبية الفلسطينية والمواجهات والمقاومة المسلحة. ولهذا لن تتوقف السلطة عن التنسيق الأمني مع إسرائيل حقًا، إلا إذا زالت السلطة عن الوجود، أو على الأقل، زالت في شكلها الحالي ووظيفتها وقيادتها.

يقتضي التصدّي لأوجه القصور البُنيوي التي تشوب اتفاقات أوسلو اعتمادَ نموذج "المساءلة والشعب أولاً"

يُجرِّمُ التنسيقُ الأمني المقاومةَ الفلسطينية، ويجعل السلطويةَ الفلسطينية مهنة، ويحرمُ الشعبَ الفلسطيني الأمنَ والأمان، ويزيدُ السياقَ القمعي بالأصل قمعًا أكثر. ولذلك، الانطلاق من واقع الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري هو السبيل المجدي الوحيد للتعاطي على نحو بنَّاء مع مسألة فلسطين-إسرائيل. وما دون ذلك ليس إلا التفافًا على المشكلة ولا يتصدّى لأسبابها الجذرية. وها هي اتفاقات أوسلو في ذكراها السنوية الثلاثين لا تعدو أكثر من كونها "إطارًا للسلام" يستديم الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري. وقد آن الأوان للتخلّي عن هذا الإطار ومشتقاته، فمسارا السلام والاستعمار لا يتقاطعان بحكم تصميمهما وتعريفهما، حتى وإنْ تحاذيا.
وهكذا فإن مسيرة الشعب الفلسطيني لتفكيك ترتيبات الهيمنة المؤسسية هذه هي جزءٌ من استراتيجيته التحرّرية وإنهاء الاستعمار وهدم هياكل القمع والسيطرة التي تفرضها عليه القوى والسلطات الداخلية والخارجية على نحو مباشرٍ وغير مباشر. وعندما أعلن الشباب الثائر في فلسطين في مايو/ أيار 2021 أن "التحرير في متناول أيدينا،" كانت رسالتهم تستهدف السلطات الداخلية والخارجية على حدٍ سواء. إنّ هذا الوضوح البَيِّن في أذهان الناس هو ما تحتاجه قيادتهم ولكن بشرطٍ مسبق هو أن تضبط بوصلتها أولًا نحو الكرامة والحرية. ومن المؤكّد أن التنسيق الأمني ليس الجسرَ الذي سيوصلُ الفلسطينيين إلى ذلك، وإنما الجسر الذي لن يوصلهم إلى أي مكان.
يتطلب تجاوز المسار الذي تمليه اتفاقات أوسلو، وعواقبه الوخيمة، انخراطًا جدّيًا في إعادة تفكير جذرية في الإطار المهيمن الراهن للاستيضاح حول الفائدة المؤسسية التي تُحققها السلطة الفلسطينية ودورها في النضال من أجل تقرير المصير. يقتضي التصدّي لأوجه القصور البُنيوي التي تشوب اتفاقات أوسلو اعتمادَ نموذج "المساءلة والشعب أولاً"، وهو ما يتطلّب من الفلسطينيين إعادةَ تشكيل نظامهم السياسي ونظام الحكم، وإعادة بناء قيادتهم الديمقراطية والتمثيلية الشرعية والشاملة والفعالة، ومن ثم إعادة تعريف السلام ليستعيد معناه الحقيقي ويضمنَ المساءلة والعدالة والمساواة الدائمة.

F5CB8409-A449-4448-AD7A-98B3389AADB7
علاء الترتير

كاتب فلسطيني، مدير البرامج في شبكة السياسات الفلسطينية، وباحث في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف. عمل باحثاً ومدرّساً في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية والتي حصل منها على الدكتوراه.