الإمبراطور الغريق

10 سبتمبر 2015

تمثال الكاتب الدنماركي هانس كريستيان أندرسون في كوبنهاغن (أ.ف.ب)

+ الخط -
تُغْفِل حكاية "ثياب الإمبراطور السحرية"، لمؤلفها الدنماركي هانس كريستيان أندرسون، أو الحكايات التي اقتبست منها؛ بطرق سردها وتأويلاتها المتعددة، مصير الطفل الذي فضح الكذبة، وأفسد اللعبة. الأغلب الأعم أنّ الأباطرة، في سالف العصر والأوان وغابر الأزمان، كانوا بسطاء، حتى الحكايات الرهيبة لم تنقل لنا قصة تعذيب حتى الموت، إلا في حالات نادرة، كانت تتلبس بالعقيدة، مثل حكاية ابن ماشطة فرعون الذي قتل، سلقاً، مثل علي الدوابشة. 

قال الولد قولة حقٍ وفطرة وبراءة أمام سلطان مغرور، والغرور منتهى الجور إذا كان صفةً للإمبراطور. ولو خرس الأطفال، لثارت الحيوانات، تطالب بإسقاط النظام، ولنطق الجماد، كما في حكاية حلاق الإمبراطور الشهيرة. قال الطفل: الإمبراطور عار. ولا توجد ثياب فريدة وسحرية وعجيبة، لم يسبق لأحد أن ارتداها، فكلنا بشر وأولاد تسعة.. لكنّ كثيرين من أباطرتنا يجعلون شعوبنا تصدق أنهم أولاد عشرة أو عشرين، وأن أمهاتهم حبلت بهم قروناً كاملة، وإنهم ثمار نبوءات ومدد من السماء، وإنهم لن يموتوا أبداً، فقد أكلوا عشبة الخلود، والعشبة هي لحم الشعب! كانت الأنظمة الطغيانية الشمولية تحرص على برمجة الأطفال في المدارس ورياض الأطفال الحديدية، وتُرضعهم حليب الخضوع وفنّ التصفيق، لكن المجرم يخفق دائماً في ارتكاب الجريمة الكاملة، فينجو طفل ما. الصدق في إمبراطوريات الكذب يدّمر.
تُروى الحكاية بمذاهب وطرق شتى، إحداها أن الولد كان مدعواً إلى الحفلة الامبراطورية، أو كان "مندساً" فيها، علماً أن حفلات الأباطرة ممنوعة على غير البالغين + 18، وقصة أندرسون الرائعة تقول إن الملك خرج على قومه في زينته، وسار في موكبه الإمبراطوري عارياً، وعادة ما يرافق الموكب صوت أفضل المذيعين وأبرعهم، حتى يلهينا عن عورة الإمبراطور، والمواكب الإمبراطورية هي إحدى الشعائر السلطانية، ومناسك الهيبة. وكان زميلنا، معمر القذافي، في كتابة القصة، وليس في شراء مآزر البالة "السكند هاند"، يرتدي ما لم يخطر على بال من الثياب الإمبراطورية الساحرة، فهي، أحياناً، رومانية وأخرى صحراوية طوارقية.. ثم كان من لطائف ربه به أنّه رزق ذلك الثوب الذي ليس له جيوب: الكفن.
أحياناً، للثوب الإمبراطوري أسماء أخرى، ما أنزل الله بها من سلطان: مثل ثوب الأمن والاستقرار، عباءة التطوير والتحديث، زي الكفتة، مئزر الإنجاز: قناة السويس الجديدة، وطائرات الرافال (كأن الإمبراطور المصري العبيط هو عباس بن فرناس الثاني). ويرتدي الفرعون أكبر زي من الكلمات: القائد الضرورة، القائد الرمز، قائد الأمة العربية، بطل الإصلاح، رمز الثورة العربية، بطل الحرب والسلام، الرئيس المؤمن، زي المقاومة والممانعة.. وما أكثر الخياطين ومصممي الأزياء الإمبراطورية، وأشهرهم على الإطلاق، الطرزي: محمد حسنين هيكل.
مثل رعية إمبراطور حكاية أندرسون وحاشيته، نافقنا الإمبراطور، ومدحنا الزي الإمبراطوري، بل إنّ خياطين، مثل الجواهري وعمر الفرا، دبجّوا ونسجوا قصائد في روعة هذه الحُلّة السحري، في الجزة الذهبية، في كسوة الريش..
وكان من عجائب المصادفة أن يكون بطل الثورة السورية في الوطن طفلا هو حمزة الخطيب، وأن يكون بطلها الثاني في المنفى هو عيلان كردي. الانتقام كان بالموت في الحالتين، فالطفل الأول مات تحت التعذيب، والثاني قضى هرباً منه، وكان من مآسي المقادير أنّ جملة العورة قالها بموته! وعلى أرض غير عربية، فهي محرمة إعلاميا على كشف حقيقة الزي السحري. الغريب هو الإهمال الكردي فقيد الثورة السورية والإنسانية واللاجئين عرباً وصوماليين وهنودا.. ! ولعل السبب هو جنس القاتل، فهو ليس من الجيران الأعداء، والقدر لا يمكن شتمه، ومهما يكن فقد فصّل الإعلاميون ثوباً إمبراطوريا واسعاً للطفل، وكل شهيد مقتول يعادل الناس جميعاً، وكان يمكن توزيع قطع من زي الإمبراطور الغريق لآلاف الشهداء الذين ماتوا من غير كفن أو كلمة عزاء.
أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر