الإمارات وتركيا ... حديث الشراكات وآفاق التحوّلات

27 مارس 2023
+ الخط -

عشر سنوات من الصدام والصراع المباشر بكل ما تحمله كلمات الصدام والصراع من معان وأبعاد، هذا كان جوهر العلاقات التركية – الإماراتية بين 2011 و2021، على كل الخطوط والقطاعات والملفات التي ترتبط بها الدولتان، بشكل مباشر وغير مباشر. ولمَ لا والإمارات وقفت، بكل إمكاناتها وقدراتها، خلف الملف الكردي، سواء في العراق أو سورية، أو حتى تركيا، رغم معرفتها التامة بخطورة هذا الملف للدولة التركية، وكونه أحد ملفات أمنها القومي وأخطرها. ووقفت الإمارات، وفق تصريحات تركية خلف محاولات انقلابية فاشلة في 2013 و2016 في تركيا، وضخّت الملايين لدعم المعارضين للنظام التركي، وشنت حملات عديدة موجهة ضد النظام في الداخل والخارج، بل وفي دعم المرشّح الرئاسي أكمل الدين إحسان أوغلو في مواجهة أردوغان.
ومن الملف الكردي إلى ملف شرق المتوسط وشبه جزيرة البلقان، حيث قدّمت الإمارات دعماً غير محدود لليونان في مواجهة تركيا في ملف غاز شرق المتوسط، وفي تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط، وفي ملف ترسيم الحدود البحرية اليونانية في المنطقة، وفي ملف القضية القبرصية، وفي توفير الدعم المالي والسياسي والإعلامي، بل والعسكري أيضاً، لليونان في كل مواجهاتها مع تركيا. ولم يقف الأمر عند اليونان، بل امتد إلى صربيا وتوقيع الإمارات اتفاقات شراكة عسكرية وأمنية معها تدعيماً لحضورها ودورها في مواجهة تركيا في شبه جزيرة البلقان، كما دعمت أرمينيا سياسياً وإعلامياً واقتصادياً. وكذلك كانت ليبيا والسودان والصومال ساحات مواجهة مفتوحة بين تركيا والإمارات، في ظل تعارض المصالح وتعارض الملفات وتعارض الشركاء المحليين الموالين للطرفين في هذه الملفات، وصولاً إلى المواجهة المباشرة كذلك في أزمة حصار قطر، مع وقوف تركيا إلى جانب قطر، ووقوف الإمارات على رأس الدول التي قادت أزمة الحصار في يونيو/ حزيران 2017، وكان على رأس مطالب الإمارات وحلفائها في هذه الأزمة إخراج تركيا من الخليج.

أعلنت تركيا والإمارات في نوفمبر 2022 تشكيل آلية "الحوار الأمني الاستراتيجي المشترك" بين البلدين

ولكنها السياسة، والعلاقات الدولية التي تقوم في جوهرها على المصالح، وبالتالي تبدل الشركاء والحلفاء، طالما الجميع يدور في فلك المصلحة، حيثما كانت يكون، لذلك جاء توقيع اتفاق العلا والمصالحة الخليجية – الخليجية في يناير/ كانون الثاني 2021، ليكون بداية لتطبيع العلاقات التركية مع أطراف إقليمية عديدة في الشرق الأوسط، منها الإمارات، فجاءت زيارة محمد بن زايد إلى تركيا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، عندما كان ولياً للعهد، وأجرى مشاورات موسّعة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأعلنت الإمارات خلال الزيارة عن تأسيس صندوق استثمارات بقيمة 10 مليارات دولار في تركيا، يركّز على قطاعات الخدمات اللوجستية والطاقة والصحة والأغذية. وجرى خلال الزيارة الثانية توقيع 13 اتفاقية تعاون في مجالات عديدة ذات اهتمام مشترك، كما زار الرئيس أردوغان، الإمارات في 14 فبراير/ شباط 2022، وشارك في الدورة العاشرة من القمة العالمية للحكومات 2023 في دبي.
وفي 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، أعلنت تركيا والإمارات تشكيل آلية "الحوار الأمني الاستراتيجي المشترك" بين البلدين، خلال لقاء وزيري الداخلية التركي سليمان صويلو والإماراتي سيف بن زايد في أبوظبي، وتهدف الآلية إلى المساهمة في تعزيز الأمن والاستقرار في كل من البلدين والمنطقة، وتعزيز التعاون والشراكة الاستراتيجية بين الدولتين، وزيادة العمل المشترك بين القوى الأمنية، ومكافحة الجرائم العابرة للحدود. وستتيح تبادل الخبرات بين البلدين في قضايا عديدة، مثل مكافحة التهريب والجريمة المنظمة.
وشهدت العلاقات التجارية طفرة كبيرة خلالي عامي 2021 و2022، حيث بلغ إجمالي التجارة غير النفطية بين الدولتين ما يقارب 19 مليار دولار في عام 2022 بزيادة قدرها 40 % عن عام 2021 و112% عن عام 2020 "لتصبح تركيا الشريك الأسرع نمواً بين أكبر 10 شركاء تجاريين لدولة الإمارات، وتحظى تركيا بأكثر من 3% من حجم التجارة الخارجية غير النفطية لدولة الإمارات، وتأتي في المرتبة السابعة لأكبر شركائها التجاريين.

أعرب أردوغان عن ثقته برفع حجم التبادل التجاري مع الإمارات إلى 25 مليار دولار في خمسة أعوام

حتى جاء التطور الأهم في علاقات الدولتين خلال العامين الأخيرين مع الإعلان، في الثالث من مارس/ آذار 2023، عن توقيع اتفاقية "الشراكة الاقتصادية الشاملة" للدولتين، وأعلن محمد بن زايد أن الاتفاقية "خطوة أخرى نحو تعزيز وتعميق العلاقات بين البلدين الصديقين"، ووصفها بأنها "اتفاقية استثنائية مع بلدٍ عزيزٍ وصديق". وقال إن "الاتفاقية تعبّر عن الإرادة المشتركة لانطلاق مرحلة جديدة للعلاقات بين البلدين في مختلف المجالات، وستسهم في تعزيز أواصر التعاون الاقتصادي، ودفع مسيرة التنمية في البلدين نحو مستقبلٍ مُشرق". وأضاف أن الاتفاقية "لا تستهدف فقط تحفيز التبادل التجاري والاستثماري والنمو الاقتصادي المشترك، بما يعزّز جودة حياة الشعبين الصديقين، لكنها تؤسّس أيضاً لشراكة تنموية حقيقية وبناء مصالح مشتركة وتوطيد علاقات استراتيجية أكثر قوة ومتانة بين البلدين". كما أعرب أردوغان عن ثقته برفع حجم التبادل التجاري مع الإمارات إلى 25 مليار دولار في خمسة أعوام، بفضل اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة، وقال إنه "بفضل الاتفاقية الموقعة سيتم بناء جسر اقتصادي مع أسس متينة من أوروبا إلى شمال أفريقيا، ومن روسيا إلى الخليج".  وأضاف: "بفضل الاتفاقية، ستزال الحواجز أمام تجارة السلع والخدمات، وسيجري تسهيل أنشطة المستثمرين ورجال الأعمال، بما في ذلك الشركات الصغيرة والمتوسطة".
وبجانب هذه التصريحات الإيجابية، تهدف الاتفاقية إلى ما أسمته "تحفيز النمو الاقتصادي طويل الأمد والمستدام والشامل في كلا البلدين، حيث تُلغي الاتفاقية أو تخفض الرسوم الجمركية على 82% من السلع والمنتجات، والتي تمثل ما يفوق 93% من مكونات التجارة البينية غير النفطية، كما تُحسّن الوصول إلى السوق التركي للمصدرين من الإمارات، بما يشمل القطاعات الرئيسية مثل المقاولات والمعادن ومنتجاتها والمنتجات التصنيعية الأخرى. وقد بدأت مفاوضات الدولتين بشأن هذه الاتفاقية في النصف الثاني من عام 2022، وتساهم الاتفاقية، إذا جرى الالتزام بتنفيذ بنودها من الطرفين، في مضاعفة التجارة البينية غير النفطية من قيمتها الحالية إلى 40 مليار دولار سنوياً في غضون خمسة أعوام، وتوفير أكثر من مائة ألف وظيفة في تركيا، ونحو 25 ألفاً في الإمارات.

ليس من السهل تجاوز الأزمات بين تركيا والإمارات إلا إذا كانت هناك إرادة جادّة وحقيقية من قيادتي الدولتين 

تجيد تركيا في سياستها الخارجية الفصل بين الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية، ففي وقت كانت هناك أزمة سياسية كبيرة بينها وبين النظام الحاكم في مصر، استمرّت علاقات الطرفين الاقتصادية، بل شهدت قفزات كبيرة مقارنة بما كانت عليه عام 2013، وكذلك في الوقت الذي تتعارض فيه الملفات التركية – الإيرانية سياسياً في سورية والعراق، ومذهبياً سنة وشيعة، وتنافسياً على المكانة والنفوذ الإقليمي، إلا أن هذا لم يمنع تدفق مصادر الطاقة الإيرانية إلى الأسواق التركية، وتوقيع اتفاق تعاون استراتيجي بين الدولتين لرفع حجم التبادل التجاري من تسعة مليارات دولار إلى 30 مليار دولار.
ولكن السؤال: هل تستطيع الإمارات الفصل فعلياً بين الملفات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وتحافظ على اتفاقية الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية التي وُقّعت مع تركيا، أم أن الصدام بين الدولتين في ليبيا والصومال وشرق المتوسط والعلاقة مع اليونان يمكن أن يحدّا من الطموحات حول هذه الاتفاقيات؟
الفرصة سانحة لتعزيز العلاقات بين الدولتين وتطويرها، في ظل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة على خلفية تداعيات الأزمة الأوكرانية، وكارثة الزلزال التي تعرّضت لها تركيا، والدور الذي قامت به الإمارات في دعم تركيا في الكارثة، وكذلك على خلفية ما تشهده شراكات الإمارات الإقليمية من تحوّلات بل وتوترات. ولكن الأمر ليس كما هو مُتخيل، لأن هناك أطرافاً ثالثة يمكنها أن تدخل على خط العلاقات بين الدولتين وتؤثر في تطوّراتها، كذلك عمق الأزمات في الملفات البينية بين الدولتين قد يكون تحدّياً يحول دون آفاق التطور، لأن هذه الأزمات ترسّخت خلال عشر سنوات، وليس من السهل تجاوزها خلال أشهر عدة، إلا إذا كانت هناك إرادة جادّة وحقيقية من قيادتي الدولتين على تجاوزها. ولكن هذه الإرادات ترتبط في جانب منها بالنيات، وهذه النيات من الأمور التي يصعب التنبؤ بمساراتها المستقبلية، لأنها ليست من المعلوم بالطبيعة، وتتغيّر بتغيّر المواقف في ظل شخصنة السياسات الخارجية لأطراف عديدة فاعلة في المشهد الإقليمي.

A57B9A07-71B2-477E-9F21-8A109AA3A73D
عصام عبد الشافي

باحث وأكاديمي مصري، دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، يعمل أستاذاً للعلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة رشد التركية، من مؤلفاته: البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية (2013)، السياسة الأمريكية والثورة المصرية (2014).