التمدّد الإثيوبي ومخطّطات تفكيك الصومال
أعلنت إثيوبيا، في الثاني من يناير/ كانون الثاني الجاري، عن توقيع اتفاق وصفته بالتاريخي مع إقليم أرض الصومال (صوماليلاند)، يوفر لها منفذاً بحريًا عبر ميناء بربرة الصومالي، وذكر مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، في بيان أن الاتفاق "سيفتح الطريق أمام تحقيق تطلّعات إثيوبيا إلى تأمين وصولها إلى البحر، وتنويع وصولها إلى الموانئ البحرية، وأن الاتفاق يُعزز أيضا الشراكة الأمنية والاقتصادية والسياسية للطرفين". وينص الاتفاق على منح إثيوبيا منفذاً على البحر الأحمر على طول 20 كلم، في ميناء بربرة، 50 عاماً. وفي المقابل، "تعترف إثيوبيا رسميا بجمهورية أرض الصومال"، كما تحصل أرض الصومال على حصّة في الخطوط الجوية الإثيوبية المملوكة للدولة. وردّت الحكومة الصومالية في بيان أن "أرض الصومال جزء من الصومال بموجب الدستور الصومالي، وبالتالي، تعتبر الصومال هذا الإجراء انتهاكا فاضحا لسيادتها ووحدتها، وطلبت من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي العمل معا في مواجهة هذا العدوان من إثيوبيا والتدخّل في السيادة الصومالية. واستدعت الحكومة الصومالية سفيرها لدى إثيوبيا للتشاور
وقد سبق التوقيع على المذكرة إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أن "وجود إثيوبيا كأمة (كان) مرتبط بالبحر الأحمر ونهر النيل"، وأن بلاده بحاجة إلى ميناء، معتبرا أن السلام في المنطقة يقوم على تقاسم متبادل متوازن بين إثيوبيا وجيرانها في القرن الأفريقي المطلين على البحر الأحمر"، في إشارة إلى جيبوتي وإريتريا والصومال وكينيا.
ويذكر أن إقليم أرض الصومال كان يسمّى سابقاً باسم الصومال البريطاني، حيث احتلته بريطانيا عام 1884، ثم أعلنت استقلاله عام 1960، وهو أحد الأقاليم الصومالية التاريخية بجانب كل من جيبوتي (الصومال الفرنسي) وإقليم بونت ووسط وجنوب الصومال (كان يطلق عليها الصومال الإيطالي) وإقليم أوغادين الذي تحتله إثيوبيا، وإقليم "أنفدي" جنوب غرب الصومال الذي تحتله كينيا. وفي 1981 تشكلت حركة تحرير أرض الصومال، بدعم عسكري ولوجستي من إثيوبيا ودخلت في مواجهات عسكرية ضد نظام الرئيس الصومالي محمد سياد بري، ومع سقوط نظام برّي عام 1991، أعلنت الحركة الاستقلال في الإقليم في 18 مايو/ أيار 1991، وأصدرت الحركة دستوراً جديداً للإقليم، تمت الموافقة عليه في استفتاء عام 2001، وفي 2003 رفضت دعوات المشاركة في محادثات سلام إعادة توحيد الصومال، ورغم أن الإقليم ينتخب حكومته، ويملك عملته الخاصة، ويصدر جوازات سفر، فقد ظلّ غير معترف به دولة مستقلة.
في مقابل الحضور الإسرائيلي والإماراتي والإثيوبي، هناك غياب كبير للدور المصري، رغم التأثير الكبير للقرن الأفريقي ودول حوض النيل كعمق استراتيجي للدولة المصرية
وترتبط حكومة الإقليم بعلاقات مع عدة دول، ولديها مكاتب تمثيلية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والإمارات وتايوان، وتستضيف بعثات قنصلية من المملكة المتحدة وتركيا وتايوان وإثيوبيا وجيبوتي والإمارات التي وقعت اتفاقا مع أرض الصومال عام 2016 بقيمة 442 مليون دولار، لتشغيل مركز تجاري ولوجستي إقليمي في ميناء بربرة، كما وقعت الإمارات في 2018 مع حكومة الإقليم اتفاقية لتطوير مشروع منطقة اقتصادية حرّة تتكامل مع مشروع تطوير ميناء بربرة، وتحتفظ شركة موانئ دبي العالمية بحصة تبلغ 51% من المشروع، الذي تم الانتهاء من المرحلة الأولى منه عام 2021، بجانب 30% حصة أرض الصومال، و19% حصة إثيوبيا.
وقد كشفت مذكرة التفاهم الإثيوبية مع حكومة أرض الصومال الانفصالية عن عدة أبعاد ودلالات، من المهم الوقوف عليها وما يمكن أن يترتب عليها من مآلات! ... أول هذه الأبعاد، الدور الإثيوبي الممتد في تفكيك الصومال، سواء من خلال دعم احتلال إقليم أوغادين الصومالي منذ 1954، أو في دعم انفصال أرض الصومال منذ منتصف السبعينيات، وصولاً إلى هذا الاتفاق التي يرسخ من الانفصال، ويعزّز من الهيمنة الإثيوبية على الأراضي الصومالية. ثاني الأبعاد، الحضور الإماراتي المهم والمؤثر في الاتفاق، وكانت بدايته عام 2016، ثم تعزّز في 2018، وكانت إثيوبيا حاضرة بنسبة 19% من اتفاق ثلاثي ضم إلى جانبها الإمارات وحكومة الإقليم. ثالث الأبعاد، الحضور الأميركي المؤثر في الخلفية، فالولايات المتحدة ترى في إثيوبيا إحدى الأوراق الرئيسية التي تعتمد عليها في تعزيز الدور الأميركي في القرن الأفريقي. وفي 2016 دعمت الولايات المتحدة الاتفاق الإماراتي مع حكومة الإقليم، وفي 2020، دعمت اتفاق الإقليم مع تايوان التي تدعمها في مواجهة التمدّد الصيني في الصومال، وخصوصا بعد رفض الصين الاعتراف بالاتفاق التايواني مع أرض الصومال. رابع الأبعاد، يرتبط بالتداخل الكبير بين الإقليمي والدولي في القرن الأفريقي، مع حضور الدور التركي الداعم للحكومة الفيدرالية الصومالية، والذي ساهم في تعزيز البنية التحتية لمؤسّسات الدولة، وخصوصا في العاصمة مقديشو، ومطارها الدولي، في مواجهة الدور الإسرائيلي الداعم لسياسات التفكيك والانفصال في دول القرن بداية من إريتريا عام 1993 إلى جنوب السودان عام 2011، وصولاً إلى أرض الصومال وقوات الدعم السريع في السودان خلال السنوات الخمس الأخيرة.
تمارس إثيوبيا تأثيرات واسعة على معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي بما يضمن لها تمرير القرارات والمشروعات التي تتفق ومصالحها
وفي مقابل الحضور الإسرائيلي والإماراتي والإثيوبي، هناك غياب كبير للدور المصري، رغم التأثير الكبير للقرن الأفريقي ودول حوض النيل كعمق استراتيجي للدولة المصرية، وتاريخياً كانت الموانئ الصومالية في زيلع وهرر وبربرة، والمدن المركزية، مثل هرجيسا ومقديشو محطات تجارية استراتيجية لمصر عبر عشرات القرون، وهناك تراجع كبير في الدور السعودي في الصومال خصوصا، والقرن الأفريقي عامة، رغم أنه تاريخياً وستبقى هذه المنطقة العمق الاستراتيجي الأكبر لدول شبه الجزيرة العربية، التي يرتبط أمنها القومي بأمن هذه المنطقة. وهو ما يتطلب تحركاً عاجلاً من دول الخليج ومصر لمواجهة تداعيات التمدّد الإثيوبي في ظل الطموح الكبير الذي تحدّث عنه رئيس الوزراء الإثيوبي في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عمّا أسماه حق بلاده في أن يكون لها حضور عادل على البحر الأحمر، حتى لو على حساب باقي دول المنطقة، وعلى حساب وحدتها وسلامة أراضيها، كما يفعل الآن بعد اتفاقه مع الحكومة الانفصالية في أرض الصومال.
خامس الأبعاد، أن الرهان على المنظمات الإقليمية والدولية في التعاطي مع الأزمة الراهنة سيكون خاسرا لعدة اعتبارات، أولها أن جامعة الدول العربية تعاني من حالة كبيرة من الضعف، وسترفض إثيوبيا أن يكون لها دور في الأزمة كما حدث في أزمة سد النهضة، وثانيها أن الاتحاد الأفريقي مقرّه الرئيس في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، التي تمارس تأثيرات واسعة على معظم الدول الأعضاء بما يضمن لها تمرير القرارات والمشروعات التي تتفق ومصالحها، وثالثها، أنه لو تم اللجوء إلى مجلس الأمن، فسيصطدم الأمر بعائقين: حق الفيتو الذي يمكن أن تستخدمه أيٌّ من الدول دائمة العضوية لصالح إثيوبيا، وأنّ المجلس يمكن أن يردّ الأمر إلى الاتحاد الأفريقي، كما حدث أيضاً في ملفّ سدّ النهضة، وتكون النتيجة مرور الوقت وتمكين إثيوبيا من تنفيذ مخطّطاتها في تقسيم الصومال وتعزيز هيمنتها الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي ومنطقة حوض النيل. وهو ما يتطلّب تحرّكا جادّا من الدول العربية ذات الثقل، والتي يتهدّد أمنها القومي من هذا التمدّد، وتوفير كل صور الدعم للحكومة المركزية في الصومال، بما يضمن الحفاظ على وحدتها وسلامة أراضيها، ويحفظ لدول الجوار العربي أمنها القومي.