الإفلات من بين أنياب الوطن
وصول الناشط السياسي، المصري من أصل فلسطيني، رامي شعث، إلى فرنسا، بعد ترحيله من السجون المصرية مجرّدًا من جنسية البلد الذي ولد وعاش فيه، هي مناسبة للحزن وإعلان الحداد على أوطانٍ توحشت على أبنائها واستكانت لأعدائها.
ولا أظنها مناسبةً سعيدةً، تستحق التهنئة والاحتفال بأي وجه من الوجوه، كونها تكرّس واقعا مؤسفا ومهينا جديدا، يصبح فيه كل معارض حقيقي شخصًا منبوذًا مطرودًا، لا يستحق أن يكون مواطنًا متمتعًا بجنسية بلده، بل أخشى أن تكون واقعة تجريد شعث من الجنسية مقابل منحه الحرية في المنفى تأسيسًا لمنطقٍ جديد حيال آلاف الحالات المماثلة في السجون المصرية منذ العام 2013.
فور الإعلان عن بيان من أسرة رامي شعث عن خروجه من مصر، بلا جنسية، ومنها إلى العاصمة الأردنية، متوجّهًا إلى فرنسا للاستقرار مع زوجته الفرنسية، بدأت الاحتفالات والتهاني داخل أوساط حقوقية وسياسية مصرية، بين من يرى في الإفلات من بين براثن السلطة إنجازًا وانتصارًا، ومن يرفق تهنئته ومباركته بتمنّي المصير ذاته للبقية الغفيرة من المحبوسين.
تخيّل لو أن النظام اعتمد هذا النهج وكرّر تجربة رامي شعث مع غيره من سجناء الرأي والموقف الذين يهم أمرهم حكومات تمارس ضغوطًا على النظام المصري، كما فعل إيمانويل ماكرون بشأن شعث، فماذا سيكون مصير النخبة السياسية المصرية، في ظل هذا التجريف المدروس للتربة المصرية، بحيث لا تبقى فيها أية احتمالات لكي تنبت فيها معارضة؟
الشاهد أن ما كانت تُصنّف جرائم ضد الإنسانية تستوجب الإدانة والتنديد، في بدايات انقلاب عبد الفتاح السيسي، صار الآن حلولًا دبلوماسية وتفاهمات دولية تقرّ بأحقية السلطة في إسقاط الجنسية عن معارضيها، ويستقبلها بالتصفيق والتهنئة معارضون استكانوا للعجز وقلة الحيلة، من دون أن يجرؤ أحدٌ على المواجهة، ولو حتى بدعوى قضائية ضد سياسة الترانسفير المخالفة للدساتير المصرية المتعاقبة والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
حين نجح انقلاب السيسي في صيف 2013، انطلق نظامه يحرق ويدمر ويُقصي في رعونة انتقامية مفرطة، لم تدع فرصة لوجود الصوت الآخر، وكما هو ثابتٌ وموثقٌ تاريخيًا فإن الخصوم الواضحين في رفضهم الانقلاب من حيث المبدأ تمت تصفيتهم بأعمال القتل المباشر، بمذابح، وبأحكام إعدام جماعية وضعت مصر في مقدمة قائمة الدول الأكثر إصدارًا لأحكام الإعدام ضد معارضي النظام السياسي، ومن بقي منهم على قيد الحياة في السجون لا يأتي على ذكرهم أحد، ولا يكون حاضرًا في أية تفاهمات أو صفقات دولية، تقوم على تلبية حاجات النظام المصري من أدوات القمع، في مقابل تحرير بعض الرهائن الجدد، المطلوبين بالاسم لدى دوائر غربية.
بل إن الأصوات التي كانت قد وفقت أوضاعها في ظل السلطة الباطشة، لكنها جرى وصفها، أو وصمها بأنها كثر تعقلًا وأقل شراسة في المنظومة الجديدة، فقد تحوّلت، بعد وقت قصير، إلى مجموعة من الأعداء والخصوم، أو بالحد الأدنى اتّهمت بأنها طابور خامس يشكل خطرًا على الحكم الجديد، فتمّت تصفية هذه الأصوات، واحدًا وراء الآخر، ثم مطاردتها، حتى استقرّت في المنفى، والنماذج عديدة، لعل أوضحها حالة محمد البرادعي، نائب رئيس السلطة التي شكلها قائد الانقلاب، وعصام حجي، المستشار العلمي لرئيس تلك السلطة التي قامت على أنقاض ثورة يناير.
وشيئًا فشيئًا تكونت حالة من الاعتياد على التوحش، من دون أية رغبة في المقاومة، حتى وصلنا إلى هذه الحالة من البؤس الكامل، صرنا معها، ونحن نستعدّ لاستقبال ذكرى ثورة الحرية والكرامة الإنسانية، نعتبر الإفلات من بين أنياب الوطن مناسبةً سعيدةً تستحق التهنئة، غير عابئين بأن الوطن قد غرس مخالبه واقتلع جنسيتنا من جذورها، وأن الوضع كله يدعو إلى الرثاء، لا التهنئة بالنفي الإجباري، فرارًا من براثن وطنٍ لا يشبع من الدماء.