الإسلامي والإسلاموي والإسلامجي

04 نوفمبر 2020

(محمد العامري)

+ الخط -

بحسب وزارة الداخلية في النمسا،، بعد جريمة الاعتداءات المسلحة التي ضربت العاصمة فيينا، فإن الإرهابي الذي قتلته الشرطة مواطن مولود في النمسا، ويحمل جنسيتها وإن كانت عائلته من أصل مقدوني، اسمه كارتين، وليس من المهاجرين أو اللاجئين القادمين من الخارج.

الجريمة تدمي القلوب، وتستوجب الإدانة الكاملة، من دون النظر في مقدمات أو خلفيات، فهي، قبل كل شيء، نموذج للجرائم ضد الإنسانية في أوضح معانيها، ولا يصح النظر إليها على قاعدة الأفعال وردود الأفعال، بل تفرض على كل من ينتمون إلى البشرية الاتحاد بمواجهة إرهاب يعربد في كل مكان.

الإدانة المطلقة للجريمة هي من مقتضيات المبدأ الأخلاقي السليم، هذا المبدأ الذي يجب أن يكون ملزمًا للكل، وفي الوقت نفسه، رادعًا لسعار الاستثمار السياسي والتربح الأيديولوجي في الكارثة، على نحو ما فعل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وسبقه في الفعل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عندما وظف فاجعة فيينا في معركته الانتخابية ضد منافسه الديمقراطي، جو بايدن .. ترامب غرد بعد قليل من جريمة اعتداءات فيينا، معلنًا أن انتخاب منافسه يعني زيادة عدد الإرهابيين المهاجرين المسلمين بنسبة 700%.

ماكرون لم يتحمّل أن يحتفظ بملامح شخصية رئيس الجمهورية الفرنسية أكثر من 48 ساعة، وهي الملامح التي بدت عليه في حواره المهم مع قناة الجزيرة، وقرّر أن يرتد سريعًا إلى حالة التاجر الشعبوي الذي يتربح من تجارة الإسلاموفوبيا، ويقرّر بجرأة، أو بوقاحة يُحسد عليها، أن الذي ضرب النمسا هو الإرهاب الإسلامي أو "الإسلاموي" أو "الإسلامجي"، كما يثغو بها الماكرونيون الذين يرعون في حقول الفرانكفونية الفسيحة.

يبدو من استعجال ماكرون في تعليق الاتهام بالإسلام، أو الإسلاموية، أن رغبة الاستثمار في مناخ الكراهية والتحريض مقدّمة على إرادة الانتصار على الإرهاب، والانحياز لقيم التعايش، إذ يعمد الرجل مجدّدًا إلى وضع أكثر من عشرة بالمائة من مواطني بلاده في دائرة الاتهام، ومعهم عشرات الملايين من مسلمي أوروبا.

في حواره مع "الجزيرة" الذي وصفته بأنه أكثر من تراجع وأقل من اعتذار لما يقرب من ملياري مسلم، استخدم ماكرون تعبيرات مثل "الإسلام المتطرّف" و"إسلام الأنوار" في توصيفه من ارتكبوا جريمة قطع الرؤوس في فرنسا، ومن أسفٍ أن هذا التعبير المفرط في المخادعة والخبث قد مرّ من دون أن يستوقفه المحاور ويردّ عليه، بأنه ليس هناك ما يسمّى "الإسلام المتطرّف" بمواجهة "إسلام الأنوار"، بل هناك الإسلام وكفى، وهو إسلام واحد معروفٌ ومحدّدٌ بإطار معروف من النصوص المقدسة، ولا تحدّد معالمه أو تقرّره تفسيراتٌ منحرفة أو فهم خاطئ أو قراءة خبيثة مغرضة.

هذا الإسلام الواحد الناصع يعبر عنه شيخ الأزهر، وعلماء الدين الثقات في المجامع الفقهية الإسلامية، ولا يعبر عنه متطرّف مهووس، ولد وترعرع في فرنسا وتشرّب قيمها الاجتماعية والثقافية، كما لا تحدّده تصرّفات إجرامية إرهابية، ذلك أن هؤلاء الإرهابيين لا يقتلون باسم الإسلام، وإنما باسم انحراف فكري واعوجاج سلوكي ومفاهيم وقيم منحطّة اكتسبوها في البلاد التي ولدوا ونشأوا فيها، داخل إطار اجتماعي وتربوي تركهم نهبًا للأفكار الفاسدة.

قبل عامين من جريمة الاعتداء على مقر صحيفة شارلي إيبدو المسيئة لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، حذرت اللجنة الاستشارية المستقلة لحقوق الإنسان في فرنسا في منتصف العام 2013 من أن الاعتداءات ذات الطابع العنصري في تصاعد مستمر، إذ أكدت رئيس اللجنة، كريستين لازرج، أن ظاهرة اللاتسامح تجاه المسلمين في فرنسا أكثر من مقلقة. ومع ذلك، لم يتنبه أحد إلى ذلك الخلل الواضح في منظومة العلاقات الاجتماعية.

فقط، بعد الجريمة، سارع مهاويس الإسلاموفوبيا بمضاعفة كميات العنصرية والكراهية ضد الدين الإسلامي، كما يفعل ماكرون الآن، بقيد كل جريمة ضد الإسلام، أو "الإسلاموية" بتعبيره المخادع.

مرّة أخرى، لو عدت بالذاكرة إلى مطلع هذه الألفية، ستجد أن فرنسا كلها كانت تباهي الأمم بأنها سيدة كرة القدم في العالم، إذ حصدت بطولتي أمم أوروبا ثم كأس العالم بفريق نصفه من اللاعبين المسلمين. لكنك لو طبقت نظرية ماكرون البائسة ستكون النتيجة أن "الإبداع الإسلاموي فاز بالبطولتين وليس منتخب فرنسا"، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث بالطبع، بل كانوا يتحدثون، وهم محقون في ذلك، عن تفوق  قيم التسامح والمساواة و المواطنة في الجمهورية الفرنسية، وتحقيق منجز رياضي لفرنسا الحرّة المتعدّدة المتنوعة المتسامحة.

الشاهد أن السيد ماكرون في أشد الحاجة إلى أن يتعلم هذه القيم من جديد، فهذا أفضل لفرنسا ولأوروبا وللعالم كله. والثابت أنك لن تكون بعيدًا عن الحقيقة لو اعتبرت أن أمثال ماكرون وترامب، وتوابعهما من الطغاة الأصغر حجمًا في بلادنا، يأتون في مقدّمة داعمي الإرهاب، بالقول والفعل.

وائل قنديل (العربي الجديد)
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري من أسرة "العربي الجديد" عروبي الهوية يؤمن بأنّ فلسطين قضية القضايا وأنّ الربيع العربي كان ولا يزال وسيبقى أروع ما أنجزته شعوب الأمة