الإسلاميون والعلمنة ... راهنيّة منجز عزمي بشارة

28 ابريل 2023
+ الخط -

كيف يمكن قراءة التديّن الإسلامي وفهم أشكاله ودينامياته المتعينة في المجتمعات العربية الإسلامية الراهنة خارج اعتبارها أدلةً على استثناء الإسلام من صيرورات العلمنة؟.. سؤال يطرحه سهيل الحبيب في كتابه "الإسلاميون والعلمانية: قراءة جديدة في ضوء نظرية بشارة في العلمنة" (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2023). والجانب الرئيس في هذا الإشكال ذو طبيعة نظرية ومنهجية، بمعنى أن الأمر الرئيس لا يتعلّق برصد الوجوه المتعيّنة لديناميات التديّن الإسلامي الراهنة، بل يتعلق بالأطر والمفاهيم النظرية التي تُعتمد في توصيف هذه الديناميات وتحليلها واستجلاء علاقاتها بسياقات العلمنة والتحديث.

يحاجج الحبيب في كتابه بأنه لا يمكن مقاربة سردية العلمانية في خطابات الإسلاميين العرب، من دون الاستفادة من الممكنات التحليلية والتفسيرية التي تتوفر عليها نظرية عزمي بشارة في العلمنة، وهي أن دراسة أنماط التديّن في المجتمعات العربية الحالية غير ممكنة من دون دراسة السياقات التاريخية. وهذه السياقات، بالنسبة إلى الدين وأنماط التدين السائدة، هي أولا وقبل كل شيء عملية التحديث التي جرت وشكلها وظروفها، ولا سيما منها سياقات العلمنة الجارية، فتعدد متغيرات أنماط التدين ومكانة الدين مرتبط بتعدد صيرورات العلمنة وشروطها المتنوعة.

من هنا، يؤكد مؤلف الكتاب أن الأمر كان يستدعي تطوير نظرية العلمنة من أجل فهم أنماط التدين الإسلامي في المجتمعات العربية والمجتمعات الغربية، فنظرية بشارة فتحت المجال لتأسيس مقولة نظرية في غاية الأهمية، وهي مقولة الوحدة المركّبة بين الديني والمجالات المتمايزة منه في العلمنة الحديثة، باعتبارها مقولةً أعمّ من مقولات نظرية العلمنة الكلاسيكية.

يعتبر الحبيب أن مقولة الوحدة التركيبية هذه تمثل مفتاحا نظريا يوفره أنموذج عزمي بشارة لفهم أنماط التديّن الإسلامي المعاصرة ودينامياتها، من منطلق أنها تمكّن من إدراك الفرق بين المدينة الإسلامية في يثرب أو الجماعات المسيحية الأولى من جهة، والموقف الداعي إلى وحدة الدين والدولة عبر الحركات والأحزاب الإسلامية المعاصرة، أو التدخّل المباشر في شؤون المجتمع والدولة لحركات الصحوة الدينية البروتستانتية أيضا من جهة أخرى.

انطلاقا من منجز عزمي بشارة في العلمانية والعلمنة، يتتبع الحبيب السياق الفكري التاريخي لجماعات الإسلام السياسي عبر مقولتي سردية فساد العلمانية ومسيحيتها

وينطلق الحبيب في تناول راهنية منجز بشارة من تفريق بشارة النظري بين الوحدة العضوية التي كان يمثلها الدين قبل أن تتمايز منه عناصر، من قبيل الدولة والمجتمع والأخلاق، والوحدات المركّبة التي تدخل بموجبها هذه العناصر المتمايزة في علاقة مع الدين. واستنادا إلى هذا التفريق، تغدو ظواهر التدين الإسلامي المعاصرة أشكالا مخصوصة من ديناميات التدين في العلمنة الحديثة. وهنا، يفتح بشارة، يقول الحبيب، أفقا جديدا لفهم الحركات الإسلامية المصنّفة في هذه المسميات باعتبارها علامات على حدوث العلمنة الحديثة، لا علامة على تعذّرها. وانطلاقا من منجز بشارة في العلمانية والعلمنة، يتتبع الحبيب السياق الفكري التاريخي لجماعات الإسلام السياسي عبر مقولتي سردية فساد العلمانية ومسيحيتها.

سردية فساد العلمانية

تقصى مؤلف الكتاب ثلاث لحظات تاريخية بشأن سردية "فساد العلمنة"، فوقف أولا عند جمال الدين الأفغاني أواخر القرن التاسع عشر في مقالته "رسالة الردّ على الدهريين"، التي أراد منها الأفغاني، من خلال تكريس سردية ارتباط التمدّن بالدين كنقيض لمقولة شبلي شميّل، ارتباط التمدن بالعلمانية.

لم تعاود سردية العلمانية باعتبارها عنوانا للفساد المطلق وشامل الظهور إلا بداية من الثلث الثاني من القرن العشرين، وتحديدا مع خطاب جماعة الإخوان المسلمين، أولى جماعات ما بات يعرف بالإسلام السياسي، وهي اللحظة التاريخية الثانية. وظهرت معالم هذه السردية في كتابات مؤسّس الجماعة ومنظّرها الأول حسن البنا، لكن خطاب سيّد قطب بداية النصف الثاني من القرن، يمثل التطور الأهم في تشكل سردية الاقتران المطلق بين العلمانية والفساد. وليست المعركة بالنسبة إلى قطب من أجل وجود الإسلام باعتباره دينا بإطلاق، بل باعتباره نمط تديّن مخصوصا، يعتبر أن الإسلام يجب أن يهيمن على شؤون الدنيا، في مواجهة العلمانية باعتبارها الفساد المطلق والشامل، لأن الإنسان عاجزٌ عن معرفة ذاته باعتباره كائنا ثقافيا، ومن ثم فهو عاجزٌ عن أن يضع ترتيبا ونظما تسير وفقه حياته الجماعية.

سردية الإسلاميين تعتبر الأخلاق الوجه السالب للعلمانية وأصل الفساد، وهي فكرةٌ تقوم على أساس أن الأخلاق هي القرين البنيوي للدين

اللحظة الثالثة هي لحظة عبد الوهاب المسيري، ومعه برزت الصورة الأكمل لحلقات تطوّر الخطاب الإسلامي الذي يدحض العلمانية ويناهضها من جهة كونها عنوانا للفساد المطلق والشامل. ومدار كتاب المسيري "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" هو العلمانية وما تجسّده من فساد كلي، لا النمط التديّني النقيض لها، خلافا لخطاب الإسلام السياسي السائد في الثلث الأخير من القرن العشرين. وقد طرح المسيري مشروعه الفكري في العلمانية باعتباره أنموذجا نظريا تحليليا وتفسيريا، يتجاوز القصور المعرفي الذي تسبّبه خديعة قصر النظر على العلمانية الجزئية الماثلة في الفصل المؤسّساتي والوظيفي بين شؤون الدين وشؤون الدنيا.

يعرّف العلمانية الشاملة بأنها رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي تحاول تحديد علاقة الدين والمطلقات الورائية بكل مجالات الحياة. وعلى هذا النحو، يكون ربط العلمانية بعوامل بنيوية فوق تاريخية أحد أهم عناصر معقولية هذه السردية القائل بفسادها المطلق والشامل.

الصورة
المسيري
(مع عبد الوهاب المسيري برزت الصورة الأكمل لحلقات تطوّر الخطاب الإسلامي الذي يدحض العلمانية ويناهضها من جهة أنها عنوان للفساد المطلق والشامل)

مناط الرهان عند سهيل الحبيب هو اعتماد مخرجات منجز عزمي بشارة، مقروءة من جهة أنها إبراز للوحدة الجدلية التي تسم صيرورات تحوّلات التديّن والتعلمن في المجتمعات الأوروبية خلال مراحل انتقالها من العصور الوسطى إلى العصر الحديث. وإذا كان لمنجز بشارة من راهنيةٍ في فهم تمثلات الإسلاميين العرب الفكرة العلمانية وظواهرها، وسرديتها ومتخيلاتهم الأيديولوجية بشأنها، فإن مكمن هذه الراهنية قائمٌ في نسيج تلك الجدلية التي تقصّاها، والتي من خلالها يبرز كيف أن تاريخيّة الدين والتديّن جزء من تاريخ العلمنة وصيرورات التعلمن.

يتمحور بحث بشارة على ثلاثة مستويات: الدولة، الأخلاق، الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، أن بناء الدولة الحديثة يشكل العامل القاعدي في الصيرورة التي أفضت إلى قيام بنية المجتمعات وأشكال وحدتها وانتظاماتها السياسية والاجتماعية. أما المسيري، فيقطع نشأة الدولة الحديثة عن الشروط التاريخية السياسية والاجتماعية والأمنية التي أفرزتها هيمنة الديانة المسيحية على شؤون السياسة والمجتمع أواخر العصر الوسيط. وهذا الاختلاف قائم بين منطق اقتفاء هذه الصيرورة في كليتها من جهة، ومنطق تقطيع التاريخ والانتقاء منه حسب الرغبة. وإذا كانت الدولة الحديثة تمثل الوجه الموجب في صيرورة العلمنة، فإن سردية الإسلاميين تعتبر الأخلاق الوجه السالب للعلمانية وأصل الفساد، وهي فكرةٌ تقوم على أساس أن الأخلاق هي القرين البنيوي للدين.

ينقض بشارة مقولة التطابق المطلق بين الأخلاق والدين، ويبيّن كيف أن الدين لم يتطابق مع الأخلاق تاريخيا، لا في الديانات القديمة، ولا في الديانات التوحيدية التي نعرفها

ينقض بشارة مقولة التطابق المطلق بين الأخلاق والدين، ويبيّن كيف أن الدين لم يتطابق مع الأخلاق تاريخيا، لا في الديانات القديمة، ولا في الديانات التوحيدية التي نعرفها. ولا ينفي بشارة أن علاقة الأديان بالأخلاق بمعناها الإيجابي قائمة في التجارب التاريخية للمجتمعات المتديّنة، لكنه يعتبر أن البحث التاريخي يفيد بأن هذه العلاقة نسبية، وليست مطلقة من وجوه عديدة. وأولى ثمار المقاربة التاريخية التي اعتمدها بشارة تمييز الأخلاق من الدين نظريا ومفهوميا. ويمثل هذا التمييز الخطوة الأولى التي كان من الضروري أن ينجزها بشارة من أجل فهم ظواهر العلمنة الأخلاقية والبنى الفكرية التي أسّست لها في السياقات الغربية الحديثة. ومن دون هذا التمييز، لا يمكن فهم العلمنة الأخلاقية باعتبارها عملية موجبة أملتها شروط تاريخية بشرية محايثة، أي باعتبارها صيرورة نشوء لقيم ومعايير أخلاقية جديدة بالمعنى الموجِب، وباعتبارها نتاجا لظروف ومتغيرات موضوعية جعلتها تقوم بديلا في العصور الحديثة. غير أن صيرورة بناء المضامين والمعايير الأخلاقية البديلة في الحداثة، وإن كانت جزءا من صيرورة العلمنة، فإنها لم تأخذ شكل قطيعة معلنة وحاسمة مع الدين ودعوة إلى استبعاده من أي وظيفةٍ يمكن أن يؤدّيها في تسويد السلوك القويم، بل تمت في شطرٍ أساسي منها، في علاقة وثيقة وجدلية مع إعادة فهم الدين، وتكريس نمط تديني جديد يبوّئ الأخلاق والوظيفة الأخلاقية منزلة الصدارة.

العلمانية خصوصيةً مسيحية غربية

يستعرض صاحب الكتاب سهيل الحبيب ثلاث لحظات تاريخية في خطاب الفكر السياسي الإسلامي، تقطع مع اللحظات التاريخية الثلاث السابقة لجهة عدم اعتبار العلمانية عنوانا للفساد المطلق والشامل، بقدر ما هي ظاهرة خاصة بالمسيحية الغربية. فقد اختلفت مقاربة الشيخ محمد عبده عن أستاذه جمال الدين الأفغاني، فلحظة عبده التاريخية هي لحظة قوة المطلب النهضوي في عصره، ما دفعه إلى مواجهة تحدّيات الخطاب العلماني بسردية مؤدّاها أن المجتمعات العربية والإسلامية يمكنها أن تحقق مظاهر المدنية ذاتها والتقدّم ذاته اللذين تحققا في الغرب.

وإذا كانت الحداثة الغربية تطلبت إبعاد المسيحية عن الشأن العام شرطا ضروريا اللنهضة، فالأمر ليس كذلك بالنسبة للمجتمعات العربية والإسلامية، لأن ما لأجله جرى إقصاء المسيحية في الغرب (هيمنة المؤسسة الدينية على الشأن العام، إقصاء التفسير الديني في فهم الظواهر الطبيعية والاجتماعية) هو عين ما يدعو إليه الإسلام.

ومع يوسف القرضاوي، في سبعينيات القرن الماضي، أعيد بناء سردية العلمانية في خطاب الإسلاميين في ضوء مفترضات قراءتهم هزيمة 1967، لتشكّل اللحظة التاريخية الثانية في هذه السردية. وقد حافظ خطاب القرضاوي على بنية الصياغة التقابلية في خطاب الإسلام السياسي بين العلمانية والإسلام، لكنه يقيم هذا التقابل وفق محورٍ مخالف تماما: التقابل بين الحل الطبيعي الأصيل والحل المصطنع الدخيل. ويحكي القرضاوي نشأة العلمانية بمضامين مختلفة كليا عن مضامين سيد قطب وعبد الوهاب المسيري، فأسباب العلمانية لا تعود إلى الطبيعة البشرية فوق التاريخية، بل ترجع إلى عوامل تتعلق بطبيعة الديانة المسيحية في حد ذاتها، وبالتاريخ الواقعي لمؤسّستها الكنسية.

أفضى مسار التطوّر الذي عرفه الخطاب الإسلامي إلى وضعية مفارقة: فهو من جهة أولى أصبح متبنّيا شطرا مهما من المخرجات العملية للعلمانية في السياسة والاجتماع والاقتصاد. ومن جهة أخرى، بات هذا الخطاب أمام تحدّي المحافظة على تمايزه

أما من الناحية التاريخية، فما يُبرزه خطاب القرضاوي أن تاريخ الكنيسة نفسه منع العلم والفكر والحرية، بخلاف الإسلام الذي شمل على تشريع الحلال والحرام، ونظّم الحقوق والواجبات والمبادلات، والمعاملات، والإدارة، والمال، والسياسة. ولذا أكد القرضاوي أن العلمانية لا تنجح في البلاد الإسلامية. غير أن التطوّرات التي ستعرفها خطابات شقٍّ مهمٍّ من الإسلاميين، ومنهم خطاب القرضاوي، بعد ذلك، ستُثبت أنهم بتبنّيهم سردية العلمانية باعتبارها خصوصية مبرّرة في الغرب المسيحي، فقد فتحوا كوّة لتطوّرات معتبرة في مواقفهم من مسارات العلمنة الحديثة، ومنتجاتها السياسية، والاجتماعية، والثقافية.

الصورة
مقالات يوسف القرضاوي
(انتقل القرضاوي من مقاربة العلمانية الغربية إلى المقاربة الهوياتية)

أولى تجليات هذا التطّور كانت مع القرضاوي، ففي كتابه "الإسلام والعلمانية وجها لوجه"، انتقل من مقاربة التقابل بين العلمانية المسيحية الغربية إلى المقاربة الهوياتية: ليس التشبث بالإسلام ورفض العلمانية تشبثا بالدين الإلهي الحق ورفضا لمخرجات العقل البشري، بل هو تشبّث بالهوية والخصوصية التي تميز الذات، وليس وراء هذا التشبّث غايات دينية، بل غايات دنيوية. وعلى هذا الأساس، وبحسب نظرية بشارة، لا تعكس ديناميات التأويلات والسرديات والتمثلات والمتخيلات الدينية عن العلمانية تطوّر الخطابات الدينية فحسب، بل تعكس كذلك تطوّر أنماط التديّن من جهة أنها ظواهر اجتماعية قائمة ومتطوّرة في صيرورات العلمنة ذاتها. ظهر ذلك في خطاب الإسلام السياسي باعتمادهم المعطيات الدنيوية لنقد الأنظمة العربية السلطوية والواقع العربي المتردّي. وهنا يكمن بالتحديد التحول الجوهري في خطاب الإسلاميين الذي يعكس وجود نمط تديّني إسلامي جديد سيقع تكريسه تدريجيا في صفوف جماهير واسعة، وقوام هذا النمط اعتبار الإسلام خصوصية هوياتية وحضارية للشعوب العربية والإسلامية.

الطابع الدنيوي والإنساني الذي بات يتجلى في أهداف مشروع الإسلام السياسي هو نتاج طبيعي لما أقدم عليه بعضهم من هذا التيار بعد الهزيمة، وأبرزهم القرضاوي، من إعادة تشكيل للإسلام في بنية أيديولوجية دينية، وتقديمها بديلا من الأيديولوجيات العلمانية الحديثة (الليبرالية، الشيوعية ...)، في أن تكون رافعة للفعل السياسي في البلدان العربية. ولكن ما فات هذا الخطاب أن لتديين الأيديولوجيا وجها آخر، وهو أدلجة الدين الذي لا يعني غير دنيويته، إذ بمجرّد توصيف الإسلام باعتباره أيديولوجيا بديلة من أيديولوجيات أخرى، يكون الإسلاميون قد وضعوه في المدار الذي تشترك فيه الأيديولوجيات كلها (الدنيوية).

أفضى مسار التطوّر الذي عرفه الخطاب الإسلامي إلى وضعية مفارقة: فهو من جهة أولى أصبح متبنّيا شطرا مهما من المخرجات العملية للعلمانية في السياسة والاجتماع والاقتصاد. ومن جهة أخرى، بات هذه الخطاب أمام تحدّي المحافظة على تمايزه، من حيث هو خطاب ديني أيديولوجي مناهض للعلمانية. وضمن هذا السياق، انبثقت فكرة أساسية في كتابات بعض رموز هذا الخطاب، مؤدّاها تمييز الحداثة والدنيوية من العلمانية، ومنطلق هذه الفكرة القول إن مشكلنا، باعتبارنا إسلاميين، ليس مع الحداثة أصلا، بل في أن الحداثة، كما قال راشد الغنّوشي، لا تأتي إلا ملازمة للعلمنة، ومن بابها الذي دخل منه الغرب. وفي أفق هذه الفكرة، بات الإسلاميون يصفون ما يرونه خصوصيةً وتمايزا هوياتيا للبلدان والمجتمعات العربية والإسلامية تحدّيا لنظريات العلمنة ونماذجها الكونية، فهذه الخصوصية تفيد وقائع قيام التحديث خارج إطار العلمنة.

من الخصوصية الهوياتية الثابتة إلى الخصوصية التاريخية المتحرّكة

إذا كانت راهنية منجز عزمي بشارة إزاء سردية الفساد الشامل والمطلق للعلمانية تكمن في بيان تاريخيّة الظواهر العلمانية، التي تطوّرت في الغرب استنادا إلى شروط أرضية موضوعية داخل سياقات تاريخية بشرية محايثة، فإن راهنية هذا المنجز إزاء سردية الخصوصية تكمن في ماهية هذه التاريخية ومضامينها المتعيّنة، كما يرصدها بشارة في التاريخ الأوروبي الحديث.

ما خلص إليه روّاد هذا الخطاب أن صيرورة التحديث والدنيوية جرت وتجري في البلدان العربية والإسلامية في إطار الإسلام لا في إطار العلمانية هو قول قائم في الأساس على افتراض أن التحديث الأوروبي كان من منطلقه علمانيا، بمعنى أنه كان صيرورة منفصلة تماما عن الدين وديناميات التدين. ومخرجات منجز بشارة، إذ تتقصّى العلمنة الغربية في مساراتها الصيرورية التاريخية المتحركة، تبيّن هشاشة مرتكز هذا المتخيل الخصوصي الهوياتي الذي تقوم عليه سردية خطاب الإسلام السياسي، ونعني به تخيّل أن نزوعات التحديث والدنيوية قد نشأت وتطورت في الفكر الغربي الحديث في سياقات قطيعةٍ تامةٍ مع الفكر المسيحي ودينامياته. وبحسب نظرية بشارة، ليس الدين منظورا إليه في السياقات الجماعية معطىً جوهرانيا ثابتا، بل هو أنماط متحرّكة من التديّن، ومن ثم، فإن رصد فاعلياته ووظائفه السياسية والاجتماعية والثقافية يجب ألا ينحصر ضمن مقولتي الوجود والعدم.

الصورة
عزمي بشارة
(يرى عزمي بشارة أن ظاهرة التديّن الهوياتي، أي تحويل الدين إلى هوية اجتماعية، من الظواهر التي تميز سياقات العلمنة الحديثة عامة)

على أن أهم ما يمكن استنتاجه من منجز بشارة أن ظاهرة التديّن الهوياتي، أي تحويل الدين إلى هوية اجتماعية، هي من الظواهر التي تميز سياقات العلمنة الحديثة عامة. ومن هنا، لا يشكّل قيام هذه الظواهر في المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة، بحد ذاته، عنوانا لانتفاء العلمنة. وفي المقابل، قد تُطرح الفرضية التي مفادُها أن الأشكال والمضامين التي تتّخذها هذه الظواهر في السياقات الإسلامية المعاصرة غير التي اتّخذتها في السياقات المسيحية العلمانية الغربية.

منجز بشارة يتيح لنا إعادة فهم مسألة الخصوصية الإسلامية باعتبارها خصوصية داخل صيرورة العلمنة الحديثة

نصل هنا إلى واحدةٍ من أهم المسائل المفصلية في تقصّي الراهنية المعرفية لنظرية العلمنة عند بشارة في السياق العربي الراهن، وهي فهم ظواهر الإسلام السياسي باعتبارها تمثل أنماط تديّن حديثة ومتحرّكة، وتشكل الوجه الآخر من صيرورة العلمنة العربية وخصوصيتها التاريخية. وبحسب الأنموذج التحليلي الذي تقترحه نظرية بشارة في العلمنة، يشكّل نمط التدين السياسي الهوياتي الإسلامي منذ نشأته حراكا اجتماعيا وفكريا وسياسيا نحو علمنة الإسلام، وذلك من جهة أنه يستبطن مبدأ تمايز المجالات الدنيوية واستقلالها.

ما عاد الخطاب الإسلامي يحمّل فهمه للإسلام دلالات الديمقراطية الجمهورية المرتكزة على مبدأ الإرادة العامة فحسب، بل غدا يحمّله كذلك دلالات الديمقراطية الليبرالية المرتكزة على مبدأ الحريات، ومنها حرية الضمير والاعتقاد والعبادة.

لا يمثل الإسلاميون خصوصية إزاء العلمنة الحديثة، بل هم يمثلون خصوصية في إطار هذه العلمنة الحديثة، وتكمن الخصوصية في أن خطاب الإسلام السياسي استوعب أهدافا ورهانات خارج المنطق الذي حكم صيرورة تحقّقها لدى جميع شعوب عالمنا الحديث. ونعني بالتحديد استيعاب النظام السياسي الديمقراطي الليبرالي خارج منطق الدولة الحديثة، وعند التدقيق، ليست هذه خصوصية تتفرد بها أيديولوجيا الإسلام السياسي، بل هي سمة تطبع الأيديولوجيات التي تصنف نفسها علمانية. وعلى هذا النحو، نرى كيف أن منجز بشارة يتيح لنا إعادة فهم مسألة الخصوصية الإسلامية على نحوٍ مختلف، أي فهمها باعتبارها خصوصية داخل صيرورة العلمنة الحديثة وليست خارجة عنها، وهي ناجمة عن شروط تاريخية متغيرة، لا عن عوامل حضارية أو دينية ثابتة.

أهم وجوه راهنية منجز بشارة عربيا أن ما يوفّره أنموذجه النظري، من مفاهيم ومقولات منهجية جديدة في فهم مآلات الديني وديناميات أنماط التدين في سياقات العلمنة الحديثة، يقود إلى فهم الحركات السياسية الإسلامية من جهة أنها تعبيراتٌ عن ديناميات معاصرة في التديّن الإسلامي.