الأقمار الثلاثة

01 فبراير 2023

الشهداء محمد ونور غنيم ومحمد صبح (حساب Ghazanow في تويتر)

+ الخط -

ماذا لو غاب واحدٌ عن البيت، وماذا لو غاب اثنان، وماذا لو أصبح الغائبون ثلاثة؟ سؤالٌ موجع والإجابة لا يمكن العثور عليها، وفراغ هائل يمتد من هناك إلى أقصى بقاع الأرض، ويعلو ليصل إلى قباب السماء، ورائحة نزفٍ لا تنفكّ، بل تزداد عبقاً يوماً بعد يوم، حتى البيت الخالي من صورهم المعلّقة على الجدران كما عادة بيوت الراحلين يئنّ ويبكي ويتوجّع، وهو يعاني الفقد مثل أصحابه، وهناك آثار على كل جدار، وضحكاتٌ عالقةٌ على كل سقف، وأمنياتٌ مرسومةٌ على كل نافذة.

لا يمكن أن تتخيّل حال قاعدة البيت وسيدته، وهي لا تجد الثلاثة حولها، حام أملٌ ضئيل بأن أحدهم قد ينجو، ولكنه أصرّ على اللحاق بالاثنين، لأنهم كانوا يفعلون كل شيء معاً، ويلتقطون الصور كثيراً ويرسلونها إلى هاتف الأم، لا لشيءٍ إلا لأنهم كانوا يعرفون أن يوم الرحيل سيأتي، وأنه سيكون جماعياً كما أرادوا، وكما عاشوا وكما رسموا طريق النضال، ليتحوّلوا إلى مشاريع موتٍ مؤجّلةٍ وأقماراً تستعدّ للصعود إلى السماء.

أقمار ثلاثة هم، قرّروا الصعود معاً، حتى إذا ما اتخذوا مواضعهم لم يعد أحدٌ يستطيع رفع رأسه إلى الأعلى من شدة الضوء ولمعة الضياء، إلا أمّهم، فهي ترفع رأسها فيلوّحون لها قائلين: الصبر يا غالية، الصبر يا عزيزة، الصبر يا أم الأقمار وشقيقة الأقمار، يا أيتها الموعودة والمنتظرة منذ نعومة أظفارك، يا صاحبة القلب الممهّد للغياب، المرسومة فوقه طريق الدموع والمزروعة فيه نعمة الصبر والمترعرع في حناياه وجع مكتوم، ولكنه كجرح غائر وقديم اعتاده صاحبه وتعايش معه، لأن لا فكاك منه إلا بالموت أو البتر.

أم الأقمار الثلاثة شقيقة أقمار ثلاثة سبقت، وكأن هناك أقواماً موعودين برقم وأقواماً موعودين بقدر. فقد فقدت أمّ الأقمار، أحمد ومحمد ونور، الذين سقطوا في جنين، ثلاثة من أشقائها في حروب لبنان، وكأن التاريخ يصمّم على أن يعيد نفسه بكل جدارةٍ وبكل دقّةٍ وبلا اختلاف أو خلاف، فها هي تفقد الثلاثة، وإن عاشت على أملٍ مثل لهب شمعةٍ، أن أحدهم سينجو.

عاش الثلاثة في كنف أبٍ مناضل، فكيف لا يصبحون مثله؟ كيف لا يسلكون طريقه ولا يمشون على خطاه متتبعين وواثقين ومصمّمين؟ ولكنهم يفعلون ذلك، وهم يتضاحكون ويتقافزون ويملأون البيت حياة تفوق أعمارهم وتسبق أيامهم لأنهم على ثقةٍ بأن وقت الرحيل يقترب، وأن الحياة التي سرقوها وتركوها معلقة هي جذوة مواساة لتلك الأم، فسوف تجلس كثيراً في الفناء وفي غرفة المعيشة وفوق أسرّتهم واحداً تلو الآخر، وترى الحياة المخبّأة والمسروقة، وتتنهّد وتمسح دمعها وتبتسم، وتلوّح لهم من بعيد وتسمع صوتهم الذي كان ولا يزال على قلب رجلٍ واحد: نحن في انتظارك، وإن اللقاء مهما طال، فهو قريب.

أنتِ، يا أم الأقمار الثلاثة، امراة مميّزة، لن تمرّ أيامك المقبلة، وأنت تبكين واحداً، بل ستبكين الثلاثة، وستكتشفين أن البكاء لا يتضاعف، لأنهم أكثر من واحد، فالغياب هو الغياب، ومعنى أن تفقدي فلذة الكبد، هو أن تبقي هكذا معلقةً بين غيوم عينيك وإشارات السماء، بين الحلم والحقيقة، وبين الأمل والرجاء.

أنت، يا أم أحمد، يا أم محمد، يا أم نور، اليوم أنت ترَين أقمارك في السماء وتلوّحين، ولا أحد يعرف سرّ الابتسامة التي تلوح على وجهك المتعب ثم تختفي، ولكنك الوحيدة التي ترينهم هناك، وبعيداً يتبادلون نكتةً خبيثة، ويلكز أحدُهم الثاني، فيما يتظاهر الثالث بأنه لم يفهم اللمز، ويبدي غضباً مصطنَعاً سرعان ما يزول، حين يحتضنه الاثنان ويخبرانه بسرٍّ قديم ومغامرة فائتة، حين كانوا أطفالاً يمرحون حول أبيهم الذي رسم لهم طريقاً مشوا فيه، والذي أعدّهم ليكونوا أقماراً، فلم يعبأ بأن يجمع لهم مالاً ولا عقاراً، فقد كان مؤمناً برسالة، والإيمان الذي يورّث ينتهي بوارثه قمراً في السماء.

نصّ عن الشهداء الثلاثة في جنين، أحمد ومحمد ونور غنيم.

دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.