الأسد متجاوزاً المجتمع الدولي
إرادة المجتمع الدولي جزء من ماضٍ تجاوزه نظام الأسد، ووضع لها بدائل ومحدّدات وشروطا. ويدرك المجتمع الذي صدّر عشرات القرارات "الهشّة"، من دون القدرة على تنفيذها، أنه حاصر نفسه، بدل أن يحاصر الأسد بوصفه نظاما ديكتاتوريا، ما جعل تلك القرارات تسكن أدراج الأمم المتحدة، وتمنح الأسد مساحةً جديدة للانقضاض على السوريين، ومتابعة سياسة التجويع تحت غطاء العقوبات الدولية، وهو الأمر الذي مارسه المجتمع الدولي نفسه على أنظمة ديكتاتورية عديدة، ومنها إيران، حيث منحت تلك القرارات غير الفاعلة الأنظمة القدرة على الاستمرار والمتابعة في قهر شعوبهم وإذلالها، ما يضعنا أمام تساؤلٍ عن السبب الذي يدعو إلى اتباع السياسات الفاشلة نفسها في معاقبة الأنظمة الديكتاتورية، بل يأخذنا إلى السؤال بشأن حقيقة أسبابها في اللجوء إلى قرارات العقوبات على الدول، إذا كانت لا تنتج إلا مزيدا من الديكتاتوريات، وتقلل من فرص النجاة للشعوب؟
مرور عشر سنوات على إمعان النظام السوري في هتك تلك الإرادة، أو ما سميت القرارات الأممية المساندة للثورة السورية منذ عام 2012، والتي تهدف، في مضمونها، إلى نزع شرعيته، وإقامة حكم انتقالي بديل، وإعادة بناء سورية، دستوريا ونظاما وبنية، يؤكّد عدم توفر الجدّية في تنفيذ القرارات، وهي عملية إجرائية روتينية، تتم في أروقة الأمم المتحدة لرفع العتب ليس إلا، وهي على السياق نفسه مع سابقاتها في دولٍ أخرى، منها إيران وعراق صدام حسين وليبيا معمر القذافي، وزيمبابوي روبرت موغابي، وكوبا كاسترو. وعلى الرغم من أن العقوبات حملت أسماء الرؤساء أو الدول، إلا أنها جميعها وجدت طريقها لمحاسبة شعوبهم وإفقارهم، وتمكين أنظمتهم من شدّ وثاق عبوديتهم، ما يعني أن النظام السوري الذي تعامل مع العقوبات بحرفية، ليحوّلها إلى نقمة على شعبه، اعتمد في ذلك على تجارب سابقة لأشباهه، ونجح كما فعلوا في تحقيق النتائج ذاتها، وأكثرها إيلاماً.
ملف إعادة الإعمار، هو الأكثر حيويةً للنظام، ولداعميه روسيا وإيران، وضمن ذلك ما يعنيه رفع العقوبات تدريجيا عنه، وإعادة العلاقات الدبلوماسية معه
وعلى ما تقدّم، يمكن أن نقرأ موقفا جديدا من خلال ما ذهب إليه التقرير البحثي لمركز كارتر الأميركي، بما سماها مساراتٍ ضروريةً لتحقيق التسوية، وضمنا يتحدّث عن تنازلاتٍ مطلوبة من الأطراف السورية، ولعل في مقدمتها التنازل عن تغيير النظام أو محاسبته على جرائمه، لأن المحفزات التي يمنحها المجتمع الدولي نفسه للنظام، فيما إذا ذهب إلى خيار تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، تتضمن الاعتراف به من جديد، والمساعدة في إعادة الإعمار، وهو الملف الأكثر حيويةً للنظام، ولداعميه روسيا وإيران، وضمن ذلك ما يعنيه رفع العقوبات تدريجيا عنه، وإعادة العلاقات الدبلوماسية معه.
ليس على الأسد أن يأخذ القرار 2254، بما يحمله من مضمون إنهاء نظامه، حسب قراءة المعارضة له، وإنما فقط التعامل مع ما ورد في بنود بناء الثقة واستبدال ما سمّي الانتقال السياسي إلى ما "اصطلحه" بحث كارتر الإصلاح السياسي، إضافة إلى شرط واشنطن الأساسي، فيما يتعلق بالملف الكيماوي، والسماح لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية بالدخول إلى مواقع الإنتاج والتخزين، وكذلك تنفيذ الشرط الرئيسي، وهو إخراج القوات الإيرانية من سورية، وهو تبعاً للمطالب الإسرائيلية، صاحبة الحظ الأوفر حالياً بفرض شروطها على الأرض، وتنفيذ رغباتها بالقوة مرّات (القصف المتكرّر لمواقع النفوذ الإيراني في سورية)، وبالتفاوض مرّة، وفق أنباء عن جولتها التفاوضية الأخيرة مع النظام، وبرعاية روسيا في قاعدة حميميم داخل الأراضي السورية.
نحن أمام استدارة دولية تبحث عن استقرار ديكتاتوريات المنطقة، لا إنهائها
يؤكّد البحث أن موافقة النظام على عودة اللاجئين، وهي المرتبطة ببحث ملف المعتقلين ومعرفة مصائرهم ووقف الاعتقال للعائدين، وتوفير البيئة اللازمة لدخول المساعدات للمدنيين والعائدين إلى الوطن، سيمنحه فرصة الوصول إلى المكتسبات السابقة، بينما ترك الباحثون ملف وقف إطلاق النار في إدلب إلى الاتفاق التركي الروسي الذي انعقد في مارس/آذار 2020، معولين على قدرته في إنتاج حوار ينهي الإرهاب الموجود على الأرض، وكأن الولايات المتحدة الأميركية ليست طرفا في سورية. ما يعني أننا أمام قراءة أميركية جديدة للقرار 2254 المبني أساساً على بيان جنيف 1 عام 2012، والذي اعتبر، وفقاً لتصريحات وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون بعيد إصدار البيان، أنه يعني اتفاقا على رحيل الأسد من خلال تشكيل هيئة حكم انتقالية، تملك صلاحيات الرئيس والحكومة وقوى الأمن والجيش، وهو ما نفاه وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف آنذاك، وهو المفهوم الرائج لدى كيانات المعارضة (أو التي تحاول ترويجه لتبرير استمرارها في التفاوض غير المجدي مع النظام)، عند قراءة إنشاء هيئة حكم انتقالية تخوّل سلطات تنفيذية كاملة في القرار، إلا أن تقييد ذلك البند بشرط الموافقة المتبادلة من الطرفين حول القرار إلى مجال لقراءات "مرنة"، يمكن أن تحول دون تنفيذه نهائياً، وهو ما استفاد منه مبعوث الأمم المتحدة السابق، ستيفان دي ميستورا، حين ألغى تراتبية القرار 2254، واعتمد خطة السلال الأربع التي لم يبق منها إلا سلة الدستور المتعثرة.
يقدّم البحث جملة من المسارات التفاوضية، والتي تمرّ جميعها من تحت نفوذ الأسد وتبرّر بقاءه، ولا يتجاهل وجود تنازلاتٍ من الأطراف السورية جميعها، لكن أهم هذه التنازلات تقع على عاتق المعارضة التي عليها أن تقبل بأن يقود الأسد عملية الإصلاح السياسي. وبذلك تنتفي فكرة إنشاء هيئة حكم انتقالية، أو الحديث عن مصير بشار الأسد، وهذا يتطابق تماما مع القراءة الروسية لبيان جنيف 1 والقرار 2254، ما يعني أننا أمام استدارة دولية تبحث عن استقرار ديكتاتوريات المنطقة، لا إنهائها. وفي المقابل، إعادة الاعتراف بالنظام السوري والاستثمار معه في إعادة الإعمار مقابل تنازلات منه بالسماح للسوريين بالعودة إلى ديارهم آمنين من أجهزته الأمنية، ومستسلمين لفشل ثورتهم في إنجاز نظام ديمقراطي تحميه دولة قانون. نعم، لقد تجاوز الأسد إرادة المجتمع الدولي، وربما بسنوات الحرب العشر قادهم من جديد إلى نقطة الصفر، الأسد ولا أحد.