الأردن وجدلية الديمقراطية والخبز
وقفت الشابة المحامية التي سجّلت في برنامج الدكتوراه أمام رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة، خلال زيارته جامعة مؤتة في محافظة الكرك، للحديث عن التحديث السياسي، وأبدت شكوكاً عميقة بمدى جديّة الانتقال نحو الحياة الحزبية في الأردن، والقلق المتجذّر لدى نسبة كبيرة من جيل الشباب من العملين السياسي والحزبي من زاوية، وبالشعور بغياب العدالة والتكافؤ أو المساواة في الفرص المتاحة أمام الشباب الأردني من زاوية ثانية.
لماذا وجدت مداخلة الشمايلة صدىً واسعاً لدى نسبة كبيرة من الأردنيين، وجرى تناقل المداخلة بصورة لافتة على مواقع التواصل الاجتماعي؟ باختصار، لأنّها أخرجت "المسكوت عنه في النص"، وتحدّثت بصراحةٍ بالغة عن مشاعر (وهواجس) النسبة الكبيرة من الشباب الأردني، سواء على صعيد العمل الديمقراطي والحزبي أو على صعيد ربط الأخير بالفرص الاقتصادية والممكنة المطلوبة للشباب الأرني في مختلف المحافظات، مع ارتفاعٍ غير مسبوق في معدّلات البطالة لدى جيل الشباب، وهي القنبلة الموقوتة المرعبة بما تحمله من تداعياتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ على المواطنين وعلاقتهم بالدولة، مع إبقاء المؤسّسات الرسمية المسوحات المتعلقة بمعدّلات الفقر في الأردن في الأدراج وعدم الإعلان عنها، فضلاً عن الارتفاع الهائل في مديونية المملكة خلال الأعوام الأخيرة.
تعزّز مداخلة الشمايلة من الأسباب الدافعة نحو تسريع وتيرة العمل السياسي والحزبي في البلاد، وإدماج نسبة كبيرة من الشباب في هذا المجال، وتؤكّد (المداخلة) أنّ "فشل الحل السياسي" سيأتي بنتائج وخيمة على أكثر من صعيد، لأنّ الأزمة الاقتصادية الراهنة وارتفاع معدّلات المديونة ليست أموراً يمكن حلّها بين ليلة وضحاها، لكن المطلوب أن تكون هنالك إدارة سياسية مختلفة تدمج جيل الشباب في المجال السياسي، وتعطيهم الفرصة للمشاركة في صناعة القرارات المتعلقة بمستقبلهم، والتخفيف من حجم الفجوة الكبير بينهم وبين الحكومات، كما تظهره استطلاعات الرأي بصورة مطردة مستقرّة خلال الأعوام الماضية.
تشكّلت خلال الأعوام الماضية لدى جيل الشباب الأردني مشاعر خطيرة بغياب العدالة الاجتماعية وبانعدام التكافؤ في فرص العمل
لا تُطعم الديمقراطية خبزاً نعم، لكنها، في صيغتها التداولية الهبرماسية، تساعد على "عقلنة النقاش السياسي" في البلاد، وتوفير المساحات الواسعة لجيل الشباب للتعبير سلمياً عن سُخطهم أولاً، وعن اندماجهم في الأطر الحزبية التي يروْنها مناسبة لتمثيل وجهات نظرهم، وربما تساعد أيضاً على الدخول الجدّي في مناقشة التشريعات والسياسات والبرامج الحكومية المقترحة للمشكلات الاقتصادية والاقتصاد والتنمية وغيرها.
تشكّلت خلال الأعوام الماضية لدى جيل الشباب مشاعر خطيرة بغياب العدالة الاجتماعية وبانعدام التكافؤ في فرص العمل، وتوازى وتزامن ذلك مع عدم وضوح سياسات الحكومات وتخبّط خطابها السياسي ورسائلها إلى المواطنين، فتارّة يكون هنالك تأكيد على التحوّل والانتقال من الصيغة الريعية في العلاقة وعدم القدرة على تأمين وظائف، وتارّة أخرى، مع ارتفاع منسوب الاحتجاجات، تجري عمليات استرضاء بفتح الأبواب لوظائف عديدة في مؤسّسات متعدّدة، ما يعيد إنتاج المشكلة نفسها ويعزّز من "البطالة المقنّعة" في المجال العام!
تضع مداخلة الشمايلة (ميزتها أنّها وجدت تغطية إعلامية، إذ تعكس خطاب شريحة واسعة من جيل الشباب) الدولة أمام خيارين رئيسين: الأول، المنظور الأمني، بمنع هذا الخطاب من الانتشار والإصرار على ضبطه، وهو خيارٌ غير مضمون العواقب، لأنّه باختصار يُراكم الاحتقان ويعزّز من الشعور بالتهميش والإقصاء والغضب، مع تصاعد حدّة الأزمات الاقتصادية وتأثيرها على هذا الجيل. وبالتالي، انتظار لحظة انفجار الاحتقان والغضب، ولجوء الشباب إلى صيغة "الحراك" والاحتجاجات الشعبية، والانفصال عن خطّ الدولة بالكلية، وتعزيز الشعور بالاغتراب السياسي والتهميش الاقتصادي. الثاني، المنظور الإصلاحي، ويتطلب تعزيز مسار العملية الحزبية، وتحريرها من الوصاية الرسمية، وإفساح المجال للشباب للولوج إلى الأحزاب السياسية، وتمكين قيادات شبابية من الصعود في القيادة وتمثيل جيل الشباب في مجلس النواب المقبل، وهو ما يتطلب بدوره، كما ذكر الكاتب في مقالة سابقة في "العربي الجديد"، انعطافة جوهرية في العملية الحزبية، من أبرز شروطها توفير مناخات العمل السياسي والحزبي من الحرية والحريات العامة والإعلامية والسياسية، وتعزيز القناعة لدى جيل الشباب أننا فعلاً امام تحوّلات سياسية كبيرة، كما حدث في العام 1989، عندما تمّ تغيير التشريعات والسياسات والسماح للأحزاب، وجرت انتخابات نزيهة حقيقية، ليشعر هذا الجيل أنّ فرصته في التمثيل السياسي والتعبير عن المصالح الاقتصادية قد جاءت، وأن الأبواب فُتحت لذلك.
في وقتٍ يتم فيه الحديث عن الأحزاب والعمل الحزبي، تدفع الحكومة بقانون جديد يقيّد الحريات إلى درجة كبيرة، وهو قانون الجرائم الإلكترونية
المفارقة أنّه في وقتٍ يتم فيه الحديث عن الأحزاب والعمل الحزبي، تدفع الحكومة بقانون جديد يقيّد الحريات إلى درجة كبيرة، وهو قانون الجرائم الإلكترونية، ويعزّز القناعة بأنّ هنالك حالة من التناقض الصارخ بين مسار العملية الحزبية والتحديث السياسي من جهة والحريات العامة والإعلامية من جهةٍ ثانية. ومن المعروف أنّ أبجديات التحوّل الديمقراطية تقوم على الاقتران بين الأمرين، وليس التناقض بينهما.
ليس المطلوب اليوم عملية حزبية منزوعة الدسم ومنعزلة عن السياقات السياسية، بل تحوّل جوهري حقيقي يقوم على الحرّيات العامة والإعلامية وتعزيز حقوق الإنسان، وإشراك جيل الشباب في المجال العام، وتوسيع النقاش العام في القضايا الوطنية، فهذا هو السبيل لإقناع هذا الجيل بأنّنا لسنا أمام لعبةٍ محدودةٍ معروفة النتائج مسبقاً.