اصحي يا مصر
أضعفت الحرب على غزّة مصر أيضاً، وأخرجت شياطينها. الدولة المصرية الحديثة أقدم دولة مركزية في منطقتنا. عمرُها قرنان. أسّسها محمد علي باشا. من إنجازاتها التوحيدية أنّها طوَّعت القبائل المُنتشرة على أطراف النيل، ذلك أنّها كانت تشكّل خطراً على المدن الواقعة على ضِفافه، تغزو وتغنم وتفرض الإتاوات، فأخضعت تلك القبائل، تارّة بالعنف، وتارّة أخرى بالإغراء بالمناصب الرسمية أو بتشبيك مصالحها الاقتصادية مع الدولة.
صدّرت الحرب على غزّة إلى العلن ما كان يُحضَّر له في شبه جزيرة سيناء منذ إسقاط الإخوان المسلمين، وتثبيت حكم عبد الفتّاح السيسي. وموضوع هذه العلنية رجل اسمه إبراهيم العرجاني. تُلخّص سيرته شيئاً ممّا يعتمر في صدر المنظومة الأمنية بقيادة السيسي. وكانت بداية ظهور الرجل في الحرب، التي خاضها الجيش والأمن المصريان ضدّ "الجهاديين"، وقد نَبَتوا في سيناء بعد القضاء على حكم الإخوان. كانت المليشيات التي جنّدتها الدولة للقضاء على هؤلاء تتشكّل من الأهالي البدو؛ أبناء القبائل السيناوية، تحت اسم اتحاد قبائل سيناء. ومع الحرب على غزّة، صعدَ العرجاني إلى قمة هذه القبائل، وطوّبته الدولة رئيساً لاتحاد القبائل العربية. نُصّب من "أعلى". لم تحترم الدولة "التراتبيات العُرفية" حتّى، أو بتعبير أدقّ "الآليات القاعدية لاختيار الرئيس"، وهي أشبه بـ"الانتخابات"، التي نعرفها. والرجل يعمل في المقاولات على طريقة "البزنس". يُقدّمه الإعلام الرسمي أنّه "رجل أعمال ناجح"، و"شخصية وطنية بارزة"، ويحظى بـ"ثقة الدولة المصرية في دور القبائل العربية في دعم جهود الاستقرار في سيناء". وهو في الواقع، بدأت طلّته الأقوى عندما فاحت رائحة "أعماله" في الحرب على غزّة؛ برع فيها، وكانت عصاه السحرية ابتزازَ العابرين من معبر رفح بمبالغ خيالية، بـ"خدمات" اقتصادية، بالتغطية على سرقة المساعدات القادمة إلى غزّة، بالقيام بأدوار أمنية بدلاً من الشرطة أو الجيش. وربّما ستحتاج إليه الدولة بعد حين، أو تحتاجه الآن، عندما تضطرّ إلى إطلاق نار على هارب من غزّة، أو هاربين، وتجنّباً لأهوال الترانسفير، أو القبض على مدوِّن سيناوي احتجّ على "أسعار" الهروب إليها. وها هي مصر تُدْخِل نفسها في نادي الدول الفاشلة صاحبة المليشيات الخاصّة، مثل الدولة السودانية (قوات الدعم السريع)، أو الروسية (فاغنر)، أو اللبنانية (حزب الله).
صارت إسرائيل في قلب محور فيلادلفيا، وتكتفي مصر بمجادلة إسرائيل حول "وجود أو عدم وجود أنفاق لحماس" تحت هذا المحور
الجيش المصري ثانياً: في أواخر الشهر الماضي (مايو/ أيار)، حصل اشتباك بين جنود من الجيش المصري والجيش الإسرائيلي، على الحدود بين سيناء وغزّة، سقط على إثره جنديّ شابّ في العشرين من العمر، وعددٌ غير معروف من الجرحى، ولم يُصب أيُّ جندي إسرائيلي. كيف تصرّفت الدولة المصرية إزاء "الحادث" هذا؟ كانت ثمّة أبواب مغلقة، التقى الطرفان؛ مصر وإسرائيل، عند التقليل، علناً، من شأن الاشتباك. والاثنان عبّرا عن "رغبة مُشتركة" بتجاوزه. أما التحقيق بشأنه، فلم يُعلن إلا عبر مصادر، نقلت عنها إحدى الصحف أنّ "عناصر من قوات الاحتلال الإسرائيلي وعناصر من المقاومة الفلسطينية أطلقت النيران في عدّة اتجاهات، واتخذ عنصر التأمين المصري إجراءات الحماية والتعامل مع مصدر النيران". فيما التعليمات الرسمية واضحة: تعتيم إعلامي، وبيان رسمي لا يذكر اسم الشهيد، ولا ينشر صورته. مع تعليمات بإغلاق الموضوع، وعدم الحديث عنه، وحظْر نشر أيّ معلومة أو رأي عن الواقعة في مواقع التواصل. وبالنتيجة، الجندي الشاب، دفن في مسقط رأسه في محافظة الفيوم، في جنازة سار فيها أهل قريته، وحسب، ولم يحصل على شرف الجنازة العسكرية، ولا أوسمة، أو تنويه من المؤسّسة العسكرية، أو مشاركة لضبّاطه، وكأنّه قتيل في حادث سير. هذا أكثر ما أغضب المشيّعين، الذين ترحّموا على أيامٍ كان الجيش المصري فيها مُعزّزاً مُكرّماً.
محور فيلادلفيا ثالثاً: هو محور عازل على الحدود الفلسطينية المصرية بين قطاع غزّة وشبه جزيرة سيناء. عرضه مائة مترٍ، وطوله 14 كيلومتراً. وهو ممرّ أو طريق، أُنشئ وفقاً لشروط اتفاقيات كامب ديفيد، التي وقّعتها مصر وإسرائيل في سبتمبر/ أيلول 1978، هدفه منع أيِّ توغّل مُسلّح، والسيطرة على حركة الفلسطينيين، وتهريب الأسلحة بين سيناء المصرية وقطاع غزّة، أي، في كلا الاتجاهَين. الآن، إسرائيل تحتلّ هذا المحور، وتخرق بذلك أحد بنود اتفاقية كامب ديفيد. ردّة فعل مصر على هذا الخرق، رخوة، خافتة. كذلك حذّرت إسرائيل من احتلال المحور، مقدمةً الحجّة تلو الأخرى، التحذير تلو الآخر. ولكنّها، الآن، بعد أن حصل الذي حصل، وصارت إسرائيل في قلبه، تكتفي مصر بمجادلة إسرائيل حول "وجود أو عدم وجود أنفاق لحماس" تحت هذا المحور، وتكلّف رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، التابعة مباشرة لرئاسة الجمهورية، ضياء رشوان، بالإعلان أنّ مصر، عكس ما تدّعيه إسرائيل، دمّرت أكثر من 1500 نفق على حدود غزّة، ودعمت الجدار الحدودي مع القطاع في السنوات الأخيرة، كأنّه بذلك يجادل طرفاً عاديّاً، أو كأنّ احتلالَ المحور أمرٌ ثانويٌّ عابرٌ.
الشقاء المصري يقترب أسرع من أيّ يوم مضى من الشقاء العربي العام
السدّ: سدّ النهضة، الذي انتهت إثيوبيا من بناء أجزاء مهمّة منه، وبدأت تملأُه بمياه النيل، فتحرم بذلك مصر هبتَها التاريخية، النهر "الخالد"، الذي أسّس للحضارة الفرعونية، ورسم الشخصية المصرية في مدى القرون، وحوّل الزراعة وقوانين الري والقرى مصدراً للخيرات. ولم نكن لنذكر السدّ لو لم يقترب من المرحلة الأخيرة لتشغيله، ولولا موقف الحكومة المصرية من هذه المرحلة، بعد شهرين على اندلاع الحرب على غزة. وهو موقف لا يفعل غير تكرار تصريحات سابقة، من أنّ وزارة الموارد المائية والريّ المصرية، تعلن "فشل جولات المفاوضات حول سدّ النهضة الإثيوبي، نظراً لاستمرار أديس أبابا الرافضة للحلول الفنية والقانونية التي من شأنها تأمين مصالح الدول الثلاث، إثيوبيا ومصر والسودان".
ظهرت مشكلة السدّ منذ 13 عاماً عندما انفردت إثيوبيا بالإعلان عنه، معتبرةً أنه يخصّ "السيادة الإثيوبية". وقتها، حصل الربيع المصري، وصعد الإخوان المسلمون إلى رئاسة البلاد. وتسرّب من أحد الاجتماعات الرسمية بحضور الرئيس الإخواني محمد مرسي، رغبات وجموح نحو مهاجمة إثيوبيا بالطيران، لثنيها عن تنفيذ المشروع. وبعد انقلاب السيسي على الإخوان المسلمين، ومنذ بداية بناء السدّ وحتّى امتلاء جُلّه، لم تحصل سوى نوعية المواقف الآنفة؛ محادثات، بيانات رسمية، نقاشات في الأمم المتّحدة... وردود إثيوبية، تحتجّ على الاحتجاج. وهلم جرّا.
الشقاء المصري يقترب أسرع من أيّ يوم مضى من الشقاء العربي العام. تلك الدولة التي كنّا نعوّل عليها، صارت تشبه دولنا بتفكك بنيانها الوطني بالدور الحيوي التي تلعبه مليشياتها، بتقاعسها عن فرض احترام معاهداتها ومصالحها، بنسفها ميراثها الغنّي بالمؤسّسات والقوانين، بإهدار حداثتها المُبكّرة. وهذا غَيضٌ من فيْض، تضخّم مع الحرب على غزّة؛ الحرّيات، الفقر، الفساد، العمران، الجنيه...