اشتباكات السلاح والسياسة في ليبيا

28 يونيو 2022
+ الخط -

لم يتوقف الصراع يوما في ليبيا منذ سنوات، وعندما كانت تخفُت أصوات البنادق تتصاعد نبرة الفرقاء السياسيين بشكل أكثر حدّة، وكأنما الجميع (أو بعضهم) يحاولون التمديد في عمر الأزمة وحالة الاحتراب الأهلي من دون التفكير في التوجّه نحو مفاوضات جدّية تنهي الانقسام، وتعيد الكلمة للشعب، لاختيار من يمثله وفق دستور واضح المعالم، يرسي دعائم دولة القانون والمؤسّسات.
أصبحت إمكانية عودة الاشتباكات بين حلفاء الأمس أعداء اليوم أمرا مرجّحا، وقد كانت له سابقة، عندما حاول رئيس الحكومة الموازية، فتحي باشاغا، الدخول عنوة إلى طرابلس. وفي ظل تنازع الشرعيات عاد السؤال بشأن من يمثل القرار الرسمي الليبي، بغض النظر عن مدى حضوره على الأرض، أو قدرته على توحيد كل أراضي الدولة الليبية تحت سلطته، فقد أعلن باشاغا، في رسالته إلى الأمين العام للأمم المتحدة، "لقد انتھى رسمیا الآن تفویض الأمم المتحدة لتحدید مسار الانتخابات. لذلك، وبصفتي رئیس وزراء لیبیا، المنتخب على النحو الواجب من قبل مجلس النواب، سأقود الآن كل الجهود المبذولة لإجراء الانتخابات في لیبیا في أقرب فرصة ممكنة"، غير أن هذا لم يكن إلا جزءا من المشهد، حيث الرغبة المحمومة لدى حكومة باشاغا في انتزاع الاعتراف الدولي بها، وهي التي فشلت في استلام الحكم داخل العاصمة طرابلس.

إذا احتكمنا لمنطق الشرعية الانتخابية والاختيار الشعبي، يمكن القول إن ليبيا الحالية تخلو من أي طرفٍ يمكنه ادّعاء تمثيلية الشارع الليبي

كانت المواقف متضاربةً بخصوص انتهاء شرعية حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، ففيما عبرت بعض الدول الإقليمية الداعمة لخليفة حفتر وحكومة برلمان طبرق عن اعتقادها بنهاية شرعية حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وكان بيان الخارجية المصرية هو الأكثر وضوحا في هذا السياق، حيث اعتبرت أن "تاريخ 22 يونيو 2022، موعد انتهاء خارطة طريق ملتقى الحوار السياسي وولاية حكومة الوحدة الوطنية الليبية المنبثقة عنه"، جاء موقف الهيئة الأممية مغايرا لهذا التوجّه، فقد حثت "القادة الليبيين على الامتناع عن استخدام تاريخ 22 يونيو أداة للتلاعب السياسي"، وهو الموقف الذي أشادت به حكومة الوحدة، لأنه يعني استمرار الاعتراف الدولي بشرعيتها. وبعدها صدر بيانٌ مشتركٌ صادر عن وزارات الخارجية في كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، يعبّر عن رفضه أي إجراءٍ قد يؤدّي إلى الانقسام في ليبيا، مثل إنشاء مؤسسات موازية أو الاستيلاء على السلطة بالقوة، وهو ما رأت فيه حكومة الدبيبة تأييدا لها، من حيث رفض وجود مؤسسات موازية تنازع حكومة الوحدة الوطنية أحقية استمرار إدارتها شؤون البلاد.
ويظل مشكل تنازع الشرعيات في ليبيا سؤالا جوهريا ومؤرقا في الوقت نفسه، وبعيدا عن المواقف الأممية، وإذا احتكمنا لمنطق الشرعية الانتخابية والاختيار الشعبي، يمكن القول إن ليبيا الحالية تخلو من أي طرفٍ يمكنه ادّعاء تمثيلية الشارع الليبي، فالبرلمان المزمن قد تجاوز الآن السنة الثامنة من عمره، وهو الذي جرى انتخابه ليبقى خمس سنوات، والمؤسسات السياسية الأخرى، مثل مجلس الدولة تعيد إنتاج ذاتها، والمؤسستان الأمنية والعسكرية مفككتان، وما يسميه خليفة حفتر جيشاً ليبيّاً هو مجموع المليشيات التي تدين له بالولاء، ويمارس عليها نفوذه الشخصي مع أبنائه، من دون وجود مؤسّسات دستورية تراقب عمل هذا الكيان المسلح، وتضبط حدود نشاطه.

مشكلة ليبيا أن الأطراف التي تتحاور حول الخروج من الأزمة هي ذاتها سبب الكارثة، بل ومن مصلحتها استمرار الأزمة

وفي المقابل، توجد مؤسّسة عسكرية أخرى في العاصمة طرابلس، وهي مهدّدة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بالتفكّك نتيجة ميل بعض مكوناتها إلى دعم حكومة فتحي باشاغا، وهكذا تتمدّد أزمة الشرعية، لتشمل شتى هياكل الدولة بمؤسّساتها الدستورية والتنفيذية والعسكرية، وهو ما يجعل من قضية إعادة بناء الدولة الليبية أمرا ملحّا وعاجلا، ولا يوجد مدخل لإعادة التأسيس إلا الشكل الانتخابي الذي تواجهه عوائق كثيرة، أولها الاتفاق على القاعدة الدستورية التي هي محلّ جدل بين أطراف شتى، وبقي الجدل حولها قائما منذ سنوات، من دون الوصول إلى حل. وعلى الرغم من حرص المبعوثة الأممية، ستيفاني وليامز، في التوصل إلى اتفاق بين الفرقاء فيما يخص المشكل الدستوري، إلا أن الإخفاق كان نتيجة مباحثات القاهرة أخيرا، وهو ما دفعها إلى نقلها إلى جنيف، لمزيد من إجراء المداولات للوصول إلى حد أدنى من الاتفاق.
مشكلة ليبيا أن الأطراف التي تتحاور حول الخروج من الأزمة هي ذاتها سبب الكارثة، بل ومن مصلحتها استمرار الأزمة التي وفرت لها من النفوذ المحلي والعلاقات الدولية خارج كل محاسبة قانونية ما لا يمكن أن يتحقق لها في صورة عودة الدولة الطبيعية، ومنح الفرصة للشعب الليبي لاختيار ممثليه عبر الانتخابات. ويدرك الجميع أن إفشال محاولة تنظيم الانتخابات في نهاية السنة الماضية وراءها أكثر من طرف ممن يتصدّر المشهد منذ سنوات، ولا يرغب في المجازفة بفقدان المصالح التي راكمها في غياب الدولة. ولكل هذه الأسباب ستستمر اشتباكات السياسة والسلاح في ليبيا، ما لم يتحرّك الشارع الليبي بذاته، ويحسم الموقف ويفرض الحل المناسب، ويبقى هذا من قبيل الأمنيات، ولكنه ليس مستحيلا.
 

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.