استقالة قرداحي أم استقالة الطبقة السياسية؟

07 ديسمبر 2021
+ الخط -

بعد أكثر من شهر من التجاذبات السياسية، وبعدما وصلت الأزمة إلى ذروةٍ أوحت أنّ خلاص لبنان من أزماته لا يتحقق سوى باستقالة وزير الإعلام، جورج قرداحي، قرّر الأخير الامتثال لتمنيات رئيس حكومته وسياسيين كثيرين، لبنانيين وغير لبنانيين، وقدّم استقالته. سواء قيل إنّ الاستقالة هي ثمرة مقايضة بين أفرقاء النظام اللبناني، أو ثمرة توافقات دولية، أو إنّها السبيل لعودة السفراء العرب إلى بيروت وعودة العلاقات، إلّا أنّ تلك الاستقالة ليست هي العائق أمام حلّ أزمات لبنان. وإن كانت الاستقالة فاتحةً لحلّ بعض الأزمات، فالأزمات المزمنة جذَّرتها الطبقة السياسية التي تتشكّل من زعماء الطوائف الذين توافقوا على بقاء لبنان على ما هو عليه، إلى درجة أنّ أيّ إصلاحٍ لا يستوي سوى باستقالة هذه الطبقة برمّتها، لا باستقالة أحد وزرائها.
إذاً، استقال قرداحي على أمل أن تنتهي الأزمة الدبلوماسية بين بلاده وعدد من دول الخليج، والتي تسبّب بها كلامه حول الحرب في اليمن، في أثناء مقابلة تلفزيونية بُثت، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وقال فيها إنّ الحرب عبثية، وإنّ الحوثيين يدافعون عن أنفسهم من اعتداءات السعودية والإمارات. وإذ تحدَّث كثيرون عن مبالغة العربية السعودية ودول في الخليج في ردّهم على تصريحات قرداحي، عبر سحب سفرائهم من لبنان وطرد سفراء لبنان من أراضيهم، توافق كثيرون على أنّ الأمر يتعدّى هذه التصريحات. ويندرج الأمر، في حقيقة عدم رضى المملكة عن سلوك الطبقة السياسية، خصوصاً بعد كلّ المساعدات التي قدّمتها للبنان. كذلك عدم رضاها عن استفراد حزب الله بقرار لبنان السياسي وزيادة نفوذ إيران فيه، علاوة على أنّ التصريحات جاءت في ظل اتهام السعودية المتواصل السلطات اللبنانية بعدم اتخاذها ما يلزم لمنع شحنات الكبتاغون المخدّرة التي وصلت إلى الأراضي السعودية من لبنان، والموضوعة داخل منتجات زراعية.

الطبقة التي أتى به اتفاق الطائف، والمستمرّة في حكم البلاد، ليست سوى ولَّادة أزمات، فهي تنقل البلاد من أزمةٍ إلى أخرى

لكن، هل ستنتهي أزمات لبنان بعد انتهاء أزمته مع دول الخليج؟ قبل هذه الأزمة، ومن سنتين، يعيش لبنان أسوأ أزماته خلال قرن ونصف؛ إذ قال البنك الدولي إنّ أزمة لبنان تعد من بين الأزمات الثلاث الأسوأ على الصعيد الدولي، منذ منتصف القرن التاسع عشر. وهي الأزمة التي بدأت صيف سنة 2019، حين بدأ الانهيار الاقتصادي الأسوأ في البلاد يتسارع، ولم توقفه الاحتجاجات العارمة التي طالبت الطبقة السياسية بالإصلاح أو الرحيل. وفاقم هذا الانهيار تقاعس حكومات هذه الطبقة عن أيّ حل، إضافة إلى الفراغ الحكومي الذي عادة ما يسبّبه الخلاف على تحاصُص المناصب بين أفرقاء النظام من زعماء الطوائف. ثم جاءت جائحة كورونا لتزيد من الانكماش الاقتصادي وتراجع الدخل القومي، علاوة على زيادة نسبة البطالة نتيجة خسارة عشرات الآلاف وظائفهم. وتكلّل الأمر مع انفجار مرفأ بيروت الذي دمّر نصف العاصمة، وتسبّب في وفاة أكثر من مائتي شخص وجرح الآلاف، والذي عزا كثيرون سببه إلى إهمال المعنيين، بدءاً من الموظفين الصغار وصولاً إلى وزراء ورؤساء حكومات. وتزامن الانفجار مع انهيار مالي غير مسبوق، سبَّبه سحب كبار المودعين أموالهم بالعملة الصعبة، وتحويلها إلى البنوك في الخارج، ما أثر على سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار، وزاد من نسبة التضخم.
خلال هذه الفترة، والفترة الممتدة على مدى ثلاثة عقود وأعقبت توقيع اتفاق الطائف، سنة 1989، الذي أنهى رسمياً الحرب الأهلية في البلاد، تأكَّد أنّ هذه الطبقة التي أتى بها الاتفاق، والمستمرّة في حكم البلاد، ليست سوى ولَّادة أزمات، فهي تنقل البلاد من أزمةٍ إلى أخرى، وعندما تريد حلّ أي أزمة، لا تفعل سوى إدارة تلك الأزمة وتوريثها لمن يلي من وزراء أو رؤساء حكومات. وفي بعض الأحيان، كانت تتلقى سخرية اللبنانيين من أنّها تفشل حتى في إدارة الأزمة. وليست أزمات الفراغين، الحكومي والرئاسي، اللذين يتسبّب بهما تجاذب رموز هذه الطبقة وخلافهم على المناصب سوى واحدة منها، في وقتٍ كانت البلاد تعاني فيه من مشكلات اقتصادية واجتماعية تتطلب إعلان حالة طوارئ اقتصادية، كما قال مرة رئيس الحكومة السابق، سعد الحريري.

من غير الممكن أن تضع السلطة قانوناً عصرياً للأحزاب أو للانتخابات، أو تُجري إصلاحاً في القضاء قد تكون نتيجته فتح ملفات فساد أقطابها

إزاء كلّ التحدّيات التي واجهت البلاد، لم تتخذ السلطة أي خطوةٍ باتجاه الإصلاح ومحاربة الفساد؛ لا الإصلاح الذي طالب به الشعب، وضغط من أجل تنفيذه من خلال الاحتجاجات التي تكلّلت بانتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019 العارمة، ولا الإصلاح الذي طالبت به الدول الصديقة، أو حتى المؤسّسات الدولية المانحة من أجل تسييل القروض التي تعتقد السلطة أنّها منقذة لبنان من أزماته. قروض تقول الحكومات بضرورتها من أجل الإصلاح، بينما هي، في الواقع، تكرِّس الأزمات السابقة، حين لا تُنفق في المجال الذي جاءت من أجله، بل تُضاف إلى المديونية التي أعلن لبنان عجزه عن الإيفاء بها للمستحقين. وتمتنع السلطة عن إجراء أي إصلاح، سواء إداري أو دستوري أو قضائي، لأنّه، بكل بساطة، سيسحب البساط من تحت أرجلها، وهي التي صاغت القوانين الحالية على مقاسها، ووضعت النصوص بطريقةٍ يسهل عليها خرقها. لذلك من غير الممكن أن تضع قانوناً عصرياً للأحزاب أو للانتخابات، أو تُجري إصلاحاً في القضاء قد تكون نتيجته فتح ملفات فساد أقطاب هذه السلطة وانتهاكهم القوانين، بل واقتراف الجرائم بحقّ مؤسّسات البلاد وشعبها.
إذا كان شعار انتفاضة أكتوبر 2019، "كلّن يعني كلّن" أي رحيل جميع مَن في الحكم من دون استثناء، فإنّ هذا الأمر يصبح ملحّاً هذه الأيام، مع علم الجميع أن استقالة قرداحي لن تنقل لبنان من طور الانهيار الاقتصادي والمالي إلى طور الانتعاش على هذه الصعد، فمن أتى بقرداحي المستقيل يمكنه الإتيان بقرداحي آخر، يتسبّب بأزمة، لا يستغرب الشعب حدوثها، بقدر ما يتوقع أن تتسبّب بها الطبقة التي تحكمه، وتسوقه إلى جهنم التي بشَّر بها رئيس البلاد ذاته، في إحدى المرّات.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.