استدعاء الهولوكوست فلسطينياً: غياب الحكمة وتوهان البوصلة
ليس رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس (أبو مازن)، غريباً عن التصريحات المنبتّة من السياق والزمان والمكان، المفتقدة للحكمة، ولا عن التصرّفات والسياسات العصيّة على الفهم والتفسير والتأويل. ينسحب هذا أيضاً على تصريحات أطلقها في أعمال الدورة الحادية عشرة للمجلس الثوري لحركة فتح، والتي انعقدت في رام الله في 24 من الشهر الماضي (أغسطس/ آب). وتناول في جزء منها جريمة الهولوكوست النازية (المحرقة) بحقّ اليهود. إلا أن البيان الناريِّ الذي وقّعه "أكاديميون وكتاب وفنّانون وناشطون فلسطينيون، وأناس من كافة مناحي الحياة"، كما وصفوا أنفسهم، ودانوا فيه تلك التصريحات لم يكن أقلّ غرابةً ولا استهجاناً مما قاله عبّاس، إذ إنهم من حيث لم يريدوا زلّوا كما زلَّ هو، فَحَرَفوا النقاش عن جرائم إسرائيل بحقّ الشعب الفلسطيني إلى استبطان اعتذار لها أو عنها، وكأن الشعب الفلسطيني مسؤولٌ عن جريمة المحرقة، أو عن تصريحات رئيس سلطةٍ تحمل صفة الفلسطينية، ولكنها تعمل بمباركة ودعم من دولة الاحتلال نفسها.
لا تُعرف حقيقة السياق الذي جاءت فيه تصريحات عبّاس عن المحرقة وما الداعي إليها، وخصوصاً أن الذي سوّقها ونشرها موقع صهيوني بامتياز يعمل تحت لافتة معهد أبحاث الإعلام في الشرق الأوسط (ميمري)، وهو موقع معروف باستهدافه نشطاء ودعاة وإعلاميين وفنانين وأكاديميين فلسطينيين وعربا ومسلمين وآخرين غيرهم ناقدين لإسرائيل، كما أنه معروفٌ بابتساره واجتزائه وتشويهه وإخراج الكلام عن سياقاته ومقاصده. ولافتٌ أن كثيرين ممن وقّعوا على بيان إدانة أبو مازن كانوا هم أنفسهم هدفاً من قبل لهذا الموقع المشبوه. على أي حال، لا ينفي هذا غياب الحكمة من التصريحات التي أطلقها عبّاس، والتي قال، في جانب منها، إن هتلر لم يقتل اليهود بسبب ديانتهم، وإنما بسبب "وظيفتهم الاجتماعية"، لأمورٍ تتعلق "بالربا والأموال وغيرها وغيرها وغيرها". هذه مسألة لا تتّصل بالفلسطينيين أبداً، اللهم إلا لناحية توظيف الحركة الصهيونية والقوى الإمبريالية الداعمة لها جريمة الهولوكوست في تبرير نكب الشعب الفلسطيني واحتلال فلسطين. ومن ثمَّ، لا منطق أبداً في إنكار جريمةٍ تقرُّ ألمانيا بارتكاب نازييها لها في خضم الحرب العالمية الثانية، وتغاضي الغرب حينها عنها. تلك جريمتُهم وعقدة الذنب الجماعي مشكلتهم، ونحن نعلم أن الإبادة ليست بالمفهوم ولا الممارسة الغريبتين على الغرب، سواء في عقر داره، كما حصل في مذابح البروتستانت في القرون الوسطى، أم ضد السكان الأصليين في الأميركتين، وكذلك الشعوب التي نُكبت بالإمبريالية الغربية في أفريقيا وآسيا وغيرهما. ومن ثمَّ، فإن جريمة الإبادة النازية المُدانة ضد اليهود في أوروبا ليست استثناءً في هذا السياق، وهو أمرٌ خبره المسلمون أيضاً في البوسنة والهرسك، مطلع عقد تسعينيات القرن الماضي، وفي كوسوفو، أواخر العقد نفسه.
في إشهار تهمة معاداة السامية ضد أبي مازن شحذ للسيف الصهيوني نفسه، المسلط على رقاب الشعب الفلسطيني ونشطائه أنهم معادون للسامية
عودة إلى بيان الإدانة الذي حمل تواقيع فلسطينيين متعدّدي الخلفيات والمشارب، أغلبهم مقيم في الولايات المتحدة وأوروبا. المفارقة أن تلك الشخصيات، وبعضهم أصدقاء أو معارف أو يجمعنا معهم عمل مشترك ضد الاحتلال الإسرائيلي، لم يحدُث أن حشدوا أنفسهم بهذه الطريقة وعلى هذا المستوى والحجم، ليدينوا ممارسات السلطة الفلسطينية ومحمود عبّاس وسياساتهما المدمّرة والكارثية بحق القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، اللهم إلا ما زجّوه عنوة في هذا البيان، في خطوة استباقية لنفي أي تهمة عنهم قد يوصَمون بها. ولو كان نقدهم أبا مازن، بسبب تصريحاته المفتقدة للحكمة عن المحرقة، جاء ضمن نهج واضح، متّصل ومستمر ومحدّد المعالم، لكان الأمر مفهوماً. ولكنه جاء استثناءً في سياق من الصمت الجمعيِّ من قبلهم عن قضايا لا تقلّ خطورة، من دون أن يعني ذلك أن بعضهم لا ينتقدون على مستوى فردي أو في أطر ضيقة.
لا أجد نفسي، بالضرورة، مخالفاً بعض ما جاء في البيان من حيث مبناه ومساءلة حكمة تصريحات أبو مازن ومنطقها، ولكن هذا لا يعني الارتياح إلى لغته (البيان) ومفرداته وكيفية توظيف سياقاته. مثلاً، يقول الموقّعون عليه إنهم يسعون إلى رفع عبء تصريحات عبّاس عن كاهل الشعب الفلسطيني على أساس أنه "مثقل بما فيه الكفاية بالاستعمار الاستيطاني والسلب والاحتلال والقمع الإسرائيلي من دون أن يضطر إلى تحمل التأثير السلبي لمثل هذه الروايات الجاهلة والمعادية للسامية بشدّة، والتي يديمها أولئك الذين يزعمون أنهم يتحدّثون باسمنا". لكن، في إشهار تهمة معاداة السامية ضد أبي مازن شحذ للسيف الصهيوني نفسه، المسلط على رقاب الشعب الفلسطيني ونشطائه أنهم معادون للسامية، وذلك بهدف ردعهم عن مناوأة الاحتلال الإسرائيلي. من ثمَّ، لا غرو أن تلقّف الإعلام الصهيوني ذلك البيان ليوقِع بلبلةً فلسطينية داخلية. وبالمناسبة، بعض الموقّعين على البيان هم أنفسهم مُدرَجون على قوائم الاستهداف الصهيوني بذريعة معاداة السامية، لا لشيء إلا لأنهم تجرّأوا من قبل على وصف إسرائيل بأنها دولة أبارتهايد، أو لأنهم اتهموها بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين. وهنا أتحدّث عن أشخاص بينهم أعرفهم عن قرب، وصاحب هذه السطور نفسه موصومٌ بالتهم ذاتها صهيونياً.
ليت الموقف الجمعي جاء غضباً من تدمير القيادة الرسمية الفلسطينية الممنهج للمشروع الوطني الفلسطيني، أو ارتكابها جرائم بحقّ شعبها
الأكثر غرابة من كل ما سبق أن يحشر البيان الهجوم على السلطة الفلسطينية في سياق "التصريحات المستهجنة أخلاقياً وسياسياً التي أدلى بها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس حول المحرقة"، وفي سياق "الرفض بشدّة لأي محاولة لتقليل أو تحريف أو تبرير معاداة السامية أو الجرائم النازية ضد الإنسانية أو التحريف التاريخي في ما يتعلق بالمحرقة". مباشرة بعد ذلك يقول أصحاب البيان "إننا مثقلون أيضا بالحكم الاستبدادي والقاسي على نحو متزايد للسلطة الفلسطينية، والذي يؤثر بشكل غير متناسب على أولئك الذين يعيشون تحت الاحتلال". ويضيفون "بعد أن تمَسّك بالسلطة بعد ما يقرب من عقد ونصف العقد من انتهاء ولايته الرئاسية في عام 2009، بدعم من القوى الغربية والموالية لإسرائيل التي تسعى إلى إدامة الأبارتهايد الإسرائيلي، فقد خسر عبّاس وحاشيته السياسية أي ادّعاء بتمثيل الشعب الفلسطيني ونضالنا من أجل العدالة والحرية والمساواة، وهو النضال الذي يقف ضد كل أشكال العنصرية والقمع الممنهجين".
ليتنا رأينا من قبل مثل هذا الموقف الجمعيِّ يصدر عن المجموعة نفسها، مستقلاً عن تصريحات عبّاس البائسة عن الهولوكوست. ليته جاء غضباً من تدمير القيادة الرسمية الفلسطينية الممنهج للمشروع الوطني الفلسطيني، أو ارتكابها جرائم بحقّ شعبها، أو جرّاء تواطؤها الأمني مع الاحتلال، أو بسبب دورها في حصار قطاع غزّة، أو على خلفية انخراطها في المشروع الرسمي العربي في كبت شعوبها، أو على أرضية تساوقها مع المخطّطات الغربية، وتحديداً الأميركية، لإبقاء منطقتنا منهكة مستنزفة، تتربّع إسرائيل على قمتها. للأسف، أيٌّ من هذا لم يحدُث من قبل، ومن ثمَّ ضاعت النقطة الأهم في البيان وتلاشت في خضم تأنيب عبّاس على "جهله" بالتاريخ وتحريفه ومعاداته السامية، ولم يكن الأمر مرتبطاً أبداً بحقّ الشعب الفلسطيني أن تكون له قيادة أكثر كفاءة وتملك شرعية حقيقية.