"ارفع راسك فوق"... "كوجيتو" الكرامة والشهامة
منذ صباح الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، ونحن السوريين نشعر كأنّنا مُنِحنا حياةً جديدةً. منذ ذلك اليوم، والفرح الغامر من جهة، والإحساس بالمسؤولية تجاه البلد من جهة أخرى، يتناوبان في احتلال مشاعرنا، لنرغب في احتضان العالم بأسره، والشعور بالامتنان صوب جميع الأصدقاء والشعوب، والبلاد التي وقفت معنا في مأساتنا الطويلة، حيث الحرب والتهجير والاعتقال والقتل. كذلك، ينتاب أغلبنا الشعور بالقلق والمسؤولية للمساهمة في تشكيل صورة سورية الجديدة، وحمايتها من أيّ تخريب لجمالها ولانتمائنا لها، بل وأكثر من هذا، نحلم أن تكون سورية مرجعيةً لشعوب الأرض في الأمل.
منذ الثامن من ديسمبر، وبشكل غير واعٍ، أسير في شوارع فرنسا، أردّد بيني وبين نفسي، وبصوت مسموع أحياناً: "ارفع راسك فوق.. أنت سوري حرّ". أشعر بمتعة غريبة، لا أفهم السرّ في هذه العبارة، محتواها؟ موسيقاها؟ الشعور الجمعي والانتماء مع السوريين والإحساس بأنّنا يد واحدة وقلب واحد؟... لا أعرف، لكنّني ما إن أردّد هذه العبارة، حتى يغمرني الأمان والقوة، والحنان. نعم، الحنان صوب العالم، والرغبة في الوقوف في الشارع، لأقول لكلّ من أصادفه: "لقد سقط النظام، وأنا أشعر بالفخر".
في حديث هاتفي مع صديق سوري، لم أتحدّث معه منذ سنوات، أعاد النصر السوري صداقتنا، أنهى حديثه بعبارة: "ارفع راسك فوق".. صديقي الديري (من دير الزور) يصرّ على لفظها " فوگ"، بلهجة أهل الدير ودرعا والرقّة وريف حمص، وكثير من المناطق الأخرى في سورية، خاصّة في منطقة الجزيرة والفرات، لا بالألف، ولا بالقاف، بل بما يشبه الجيم المصرية، كما يلفظها صباح فخري وناظم الغزالي، حين يغنّون: "فوق إلنا خلّ... فوق، فوق". صديقي الديري، كأصدقاء كثيرين لي، من منطقة الجزيرة، بل ومع المدن الحدودية السورية، في الأردن والعراق، يتصرّفون بشهامة لأنهم نتاج تربية تقوم على الاحترام.
أن ترفع رأسك إلى فوق، يعني أنك تتصرّف كالكبار، ولا تنزل إلى سلوك الحضيض. هكذا هو "كوجيتو" الكرامة
صديقي العراقي الذي نشأ في بيئة عشائرية قَبَلية، تقوم على إكرام الضيف، ومساعدة الملهوف، والعفو، كأنه يعيش في القرن التاسع عشر، متحدّياً مفاهيم الحداثة، مُغلّباً مفاهيم الأخلاق العشائرية "من داس بساطنا فهو آمن"، يروي لي قصصاً خياليةً عن العفو عن الخصوم، حتى لو بينهم شلّالات دم، وثأر طويل، إذا طرق بابك، ودخل بيتك. يحكي لي صديقي عن رجل جاءهم، وكان بينهم ثأر قديم، قال لي: "لو أن أحد أهلي رآه في الخارج، لأطلق عليه النار، لكنه حين طرق بابنا، وطلب العون، هرع أبي وحمل سلاحه للدفاع عن هذا الخصم. هكذا هو "كوجيتو" الكرامة، أن ترفع رأسك إلى فوق، يعني أنك تتصرّف كالكبار، ولا تنزل إلى سلوك الحضيض.
الكرامة إذاً ندّ للشهامة، وأنا هنا لا أتحدّث عن العفو العام، الذي هو شأن الدولة، تنظّمه قوانين تقوم على المحاسبة والمحاكمة، بل عن التصرّف التلقائي لأحدنا، حين يكون رأسه "فوق" يجب ألا يتصرّف بطريقة غير لائقة بالرأس المرفوع.
الكرامة الإنسانية، والشعور المبهج الذي انتابنا سوريين باستعادة كرامتنا، يتطلّب منّا إحساساً بالمسؤولية لحماية وحفظ كرامة الآخر، مهما كانت درجة خصومتنا معه، فنحن، أبناء الكبرياء والكرامة، يجب ألا نتماهى مع تربية الأسد المُذلّة، المتعارضة مع الإنسانية. لقد قالها ابن حمص ذات يوم: "أنا إنسان، مو حيوان". لهذا.. تقتضي إنسانيتنا اليوم ألا نطالب خصومنا بالتحوّل حيوانات، ونطلب منهم العواء لإهانتهم.
تقتضي الكرامة الشهامة، "ارفع راسك فوق" يعني أنت فوق الانتقام والثأر والإهانة، يعني أنت كريم وشهم ونبيل. إن سورية الجديدة، سورية العزّ والكرامة، لم تعد مزرعة الأسد التي يُهان فيها الإنسان، ويجب ألا نتهاون، سوريين في الأخصّ، مع أيّ فعل متماهٍ مع سلوك آل الأسد وشبّيحتهم. نحن لسنا مثلهم، نحن الشعب الكريم، الذي يطلب حتى لخصومه، أن يرفعوا رؤوسهم في محاكمات عادلة، تحفظ كرامة الجميع.