فرنسا من دون فرنسيين
خلال أغسطس/ آب الحالي، كانت العطلة الصيفية مختلفة في باريس، إذ ساهمت الألعاب الأولمبية بجذب السياح من أوروبا خاصّة. الألعاب وعطلة الصيف دفعتا معاً باريسيين كثيرين إلى الفرار من المدينة، خوفاً من الازدحام، وتعثّر شبكة المواصلات، وارتباك الحياة اليومية، فبدت باريس مدينةً غير فرنسية.
تابع موظفون كثيرون أعمالهم عبر الإنترنت، وأُغلقت مكاتبهم للأسباب نفسها؛ الألعاب الأولمبية وإجراءات التنقّل المعقّدة، والمفاجئة أحياناً، في وسائل المواصلات. تقول ساندرين: حين أصعد المترو، أسمع لغات مختلفة، إنكليزية، وألمانية، وهولندية، وعربية، وتركية... ويبدو سلوكُ الناس مختلفاً، إذ يتبادلون الابتسامات وهذا نادر في باريس.
في مقال سابق كتبته، ترجم في صحيفة كورييه أنترناسيونال، تحدّثت عن ضجر المترو وصرامة الوجوه الباريسية المُتعبة، لكن باريس في المونديال والصيف ليست باريس ذاتها في باقي الأيام العادية. في الحي الذي أقيم فيه، في الدائرة الـ20، شعرت أن الناس متخفّفون أكثر من اللغة الفرنسية، كنتً أتحدث العربية أو الكردية مع الباعة، فغالبيتهم فرنسيون من أصول أجنبية.
في المترو وأنا أسحب خلفي حقيبةً ثقيلةً، قفز أحدهم ليحملها ويصعد بها الدرج، فأدهشني تصرّفه وقلت له شاكرة: أنت لست فرنسياً بالتأكيد؟... ضحك الرجل، الذي ربّما لم يفهمني لأنني تحدّثت بالفرنسية، وهو على الأغلب أجنبي من خارج فرنسا. هذا لا يعني أنّ الفرنسيين لا يقدّمون خدماتٍ مماثلةً، إنّما من النادر أن يفعل هذا فرنسي في باريس بالذات، المدينة الملعونة بالزحام وضيق الوقت واللهاث، حيث نرى كثيرين يهرعون إلى المترو، كأنّه المترو الأخير، ويشتمون بصوت مسموع، إذا أُغلق الباب قبل لحاقهم إليه، وكأنّ الحياة توقّفت، مع أنّ الشاشة الضوئية تعلن قدوم مترو بعد أربع أو خمس دقائق تقريباً. للدقيقة الواحدة هنا في باريس أهمّيتها، ولها مكانتها وتأثيرها، لهذا لا يجد أحدهم الوقتَ لتضييعه في حمل حقيبة أحد ومساعدته لتجاوز الدرج.
باريس في المونديال والصيف ليست باريس ذاتها في باقي الأيام العادية
سافرت صديقتي ألسا، كغيرها، هاربةً من باريس إلى أميركا، وكانت تتّصل بي من وقت إلى آخر، تطمئنَّ على أحوالي في باريس في أثناء الأولمبياد، وكأنّ الحياة العادية قد توقفت، أو مهدّدة بالتوقّف. كانت تصرّ علي: لا تذهبي بعيداً، ربّما تعلقين في المواصلات وتجدين صعوبة في العودة، لا تعطي مواعيدَ خارج الحي، حاولي أن تكوني قريبةً من البيت لضمان سهولة العودة من دون مواصلات في أسوأ الاحتمالات. أفرغت تلك الاحتياطات القلقة المبالغ بها باريس من سكّانها إلى حدّ كبير، مع أنّ صديقي المصري أخبرني بأنّ لا شيء تغيّر في حياته اليومية، يذهب ويعود إلى العمل، مستخدماً خطّ المترو ذاته، قبل وأثناء الأولمبياد، ولم يشعر بأيّ انزعاجٍ أو مفاجآتٍ غير محببة في هذه الفترة.
ربّما بالغ الفرنسيون الذين لا تهمّهم الرياضة، والذين يكرهون التغيير في إيقاعهم اليومي، ولكن من المُؤكّد أنّ باريس كانت مختلفةً تماماً، وهذا ما شعرتُ به شخصياً ولمسته في تنقلاتي، إذ كانت شوارعُ كثيرةٌ خاليةً، وكذلك كثيرٌ من المتاحف ودور السينما والمسارح، للسببين ذاتهما؛ انشغال الناس بفعّاليات الأولمبياد وحضور المباريات في أماكن عرضها الخاصّة أو التجمّع في ساحاتٍ وحدائقَ أمام شاشات العرض الكبرى، أو التواجد خارج المدينة، ممّا جعل باريسَ تبدو في عينَي بمثابة المدن العربية في لحظات الإفطار في رمضان، لأنّ أغلب الناس يكونون في بيوتها حول موائد الطعام.
على عكس التخوّف المبالغ به من ارتباك الحياة اليومية الباريسية في الأولمبياد، كانت باريس هادئةً وآمنةً، وكان ارتفاع منسوب الأمان والحماية والإجراءات التي أخذتها الحكومة، منح باريس وجهاً مختلفاً، وخاصّة هذا الفراغ في الشوارع، وتلاشي الازدحام واللهاث، وكذلك، وهذا الأهم والأجمل، تلاشي العبوس والتجهّم والقلق في وسائل المواصلات، حيث يبتسم السيّاح لبعضهم، وحيث راح الفرنسيون أنفسهم يبتسمون مرتاحين أمام هذا التلوّن وكأنّهم مارسوا فجأة دورَ المضيف السعيد باستضافة هذا العالم القادم من بعيد، فأصبحت باريس مدينةً هادئةً ممكنة التجوّل فيها من دون الحاجة إلى السرعة أو القلق من المواصلات أو الانتظار طويلاً في صفوفٍ أمام دور السينما والمتاحف والمسارح، لأنّ العالمَ يتجمّع هناك، في صفوف مدهشة الطول، أمام عروض فعاليات الأولمبياد.