ارتباك أميركي
منذ عملية 7 أكتوبر/ تشرين الأول، تدعم إدارة الرئيس الأميركي بايدن، بل وتتبنّى الحرب التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة بهدف القضاء على الجناح العسكري لحركة حماس، وتعتبر هذه الحرب دفاعاً عن مصالحها في المنطقة، وهي الممرّ الاقتصادي المقترح إنشاؤه من الهند إلى أوروبا عبر الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، واستكمال عمليات التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتريد تحقيق انتصارٍ للجيش الإسرائيلي لتأكيد تفوّقه في المنطقة، باعتباره أداة لتحقيق مصالحها، ومعبّراً عن تفوّقها العسكري بوصفها دولة عظمى. لكن الولايات المتحدة بوصفها على رأس المنظومة الرأسمالية العالمية، اعتادت تمرير أجنداتها عبر خطاب بارانويا سياسي يصوّر الأمة محاصرة ومهدّدة، من "إرهاب حماس" مثلاً؛ ففي مقالته في "الواشنطن بوست" قبل شهر بعنوان "الولايات المتحدة لن تتراجع أمام تحدّي بوتين وحماس"، يقول بايدن إن الرئيس الروسي بوتين وحركة حماس يقاتلان لطمس "ديمقراطية الجيران"، وانهيار الاستقرار الإقليمي، وأن أميركا تقود العالم في الدفاع عن تلك الديمقراطية من أجل أمنها القومي، ومن أجل "الخير لكل العالم". هناك متغيّرات جديدة باتت تهدّد بنسف مصداقية خطاب بايدن مع إطالة أمد الحرب الإسرائيلية الوحشية على المدنيين في غزّة، خصوصا أن وسائل الإعلام الغربية لم تعد تتحدّث عن إرهاب "حماس"، بل عن المجازر الإسرائيلية في قطاع غزّة. ما دفع بايدن ومسؤولين أميركيين إلى الطلب من نتنياهو وضع جدول زمني للعمليات العسكرية، وتخفيض مستوى العنف إلى الحدّ الأدنى.
نظّم الأسبوع الماضي عشرات من موظّفي إدارة بايدن وقفة احتجاجية أمام البيت الأبيض، داعين بايدن إلى دعم وقف إطلاق النار
تتلخّص هذه المتغيرات، أولاً، في تصاعد الأصوات، داخل الإدارة الأميركية، الداعية إلى وقف الحرب؛ فبعد استقالة المسؤول السابق في وزارة الخارجية جوش بول، في أكتوبر/ تشرين الأول، بسبب طريقة تعامل بايدن مع الصراع بين "حماس" وإسرائيل، هناك بيانات ورسائل تطالب بوقف الحرب على غزّة يرفعها موظفون في وزارة الأمن الداخلي. وقد نظّم الأسبوع الماضي عشرات من موظّفي إدارة بايدن وقفة احتجاجية أمام البيت الأبيض، داعين بايدن إلى دعم وقف إطلاق النار. وثانياً، هناك التظاهرات الكونية المتزايدة اتساعاً يوماً بعد يوم، وفي كل أنحاء العالم، والتي تدعم حقوق الفلسطينيين، وينضمّ إليها لفيفٌ واسعٌ من اليساريين والحركات النسوية والبيئية والحركات السوداء في الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا وغيرها. ويتصاعد النشاط الطلابي في الجامعات لدعم القضية الفلسطينية، وتقودُه حركات طلابية قوية ازدادت اتّساعاً في السنوات الأخيرة، ولها فروع في كل الجامعات الأميركية، مثل حركة "طلاب لأجل العدالة في فلسطين"، والتي تعمل على مقاطعة الاستثمارات في الجامعة للشركات الداعمة لإسرائيل، فيما تسبّب الصمت عن نشاطها في استجواب ثلاث رئيسات لجامعات أميركية مرموقة في الكونغرس. وقد أحدث هذا جدلاً داخل الجامعات بشأن حقّ الطلاب في حرّية التعبير من جهة، أو أن معاداة الصهيونية تساوي معاداة السامية، حسب تشريعات الكونغرس. عدا عن حرمان الطلاب المؤيدين للفلسطينيين من العمل، وحرمان الجامعات من التمويل بسبب السماح للطلاب بتنظيم التظاهرات. كل هذه البلبلة في الجامعات، وأمام وحشية القصف الإسرائيلي لقطاع غزّة ومشاهد قتل الأطفال وتدمير البنى التحتية، أعادت النقاش بشأن القضية الفلسطينية، خصوصا أن هذه الحركات التي كانت في التسعينيات تؤيد حلّ الدولتين باتت اليوم تطرح فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة على كامل فلسطين، "من النهر إلى البحر".
جرى نسف مداولات التطبيع السعودي مع إسرائيل وسيخسر بايدن هذا الإنجاز
ثالثاً، أظهر الفيتو الأميركي ضد مشروع قدّمته الإمارات يدعو إلى وقف فوري للحرب في غزّة عزلة الولايات المتحدة في العالم، فحتى حليفتها بريطانيا فضّلت الامتناع عن التصويت، وهذا يُحرج إدارة بايدن، ويُظهرها في موقف غير إنساني وفاضح، ومخالفٍ لخطابها السياسي والإعلامي. هذا يصبّ في مصلحة الصين الصاعدة بقوة باتجاه عالم متعدّد الأقطاب، وفي مصلحة روسيا الراغبة في صرف الأنظار عن حربها في أوكرانيا باتجاه غزّة، والسعيدة بتعرية كذب الخطاب الأميركي أمام العالم، والأهم أن إيران مستفيدة جداً، بعدما أفرجت واشنطن عن جزء من أموالها المحتجزة في عُمان، مقابل ضبط نشاط حزب الله في جنوب لبنان ضد إسرائيل، ليبقى دون مستوى التصعيد.
كل ما سبق يظهر واشنطن في حالة ضعف أمام حلفائها العرب أيضاً، فمصر والأردن متوتّرتان بشأن المخطّطات الإسرائيلية حول تفريغ قطاع غزّة باتجاه معبر رفح، أو حول الطرح القديم المتجدّد بالتهجير من الضفة الغربية وإقامة دولة للفلسطينيين في الأردن. وهذا يدفع القاهرة وعمّان إلى إعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل، وبالفعل جمّدت الأردن المفاوضات بشأن مشروعات تبادل المياه المحلّاة والطاقة الشمسية مع الكيان الإسرائيلي، وهي بصدد إعادة النظر في علاقتها به. في حين جرى نسف مداولات التطبيع السعودي مع إسرائيل، وسيخسر بايدن هذا الإنجاز الذي كان يعوّل عليه لدخول الانتخابات الرئاسية المقبلة. وفي المجمل، قد يشكّل الضعف الأميركي فرصة أمام حلفاء واشنطن العرب لرفع سقف شروطهم ومطالبهم في العلاقة مع الأميركان، ولصالح الحصول على بعض الاستقلالية في القرار، خصوصا مع تقوية العلاقات مع روسيا والصين.
مهلة الأسابيع من البيت الأبيض لإسرائيل لإنجاز مهمّتها في القضاء على "حماس" ستنتهي، ولا يبدو المشهد أن حكومة نتنياهو قادرةٌ على تحقيق الانتصارات الملموسة في غزّة، فيما يزيد مرور الوقت مع استمرار المجازر الإسرائيلية من ارتباك واشنطن في غزّة، لأنه يفتح نقاش القضية الفلسطينية على نطاقاتٍ أوسع، ويعرّي زيف الديمقراطية الغربية وشعارات حقوق الإنسان والخير الذي تقول إدارة بايدن، والإدارات التي سبقته، بأنهم ينشرونها في أنحاء العالم.