احتلال إسرائيلي فوق الأرض وتحتها
قبل نحو شهرين، أعاد بعض أصحاب الأراضي في خربة تبنة، القريبة من قرية دير نظام شمالي رام الله، إلى الأذهان دور الأركيولوجيا الإسرائيلية في سرقة الأرض الفلسطينية من خلال كشف النقاب عن قيام بعثة خاصة من جامعة بار إيلان الإسرائيلية بأعمال حفرياتٍ في الخربة المذكورة، وإعلانها العثور على "قرية يهودية عمرها أربعة آلاف عام"، ما حدا صحيفة هآرتس إلى إنشاء مقال افتتاحي تحت عنوان "يحتلون ويحفرون"، أشارت فيه، من ضمن أمور أخرى، إلى أنه منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967 ينشط علم الآثار الإسرائيلي هناك، حيث أجرى "الضابط المسؤول عن الآثار في الإدارة المدنية" حفريات، وأجرت سلطة الآثار استقصاءات، وأقامت منظمات مرتبطة بالمستوطنين حدائق أثرية، وعملت في التنقيب عن الآثار هناك حملات استكشافية من منظمات إنجيلية من الولايات المتحدة، وأصبح علم الآثار أداة لقمع الفلسطينيين وإبعادهم عن أرضهم، وتثبيت الرواية التاريخية الملفّقة بشأن "حق اليهود التاريخي" في المنطقة.
قبل ذلك، أوضحت تقارير لمنظمات حقوق إنسان فلسطينية وإسرائيلية أن الأعوام الأخيرة شهدت ارتفاعاً بنسبة نحو 165% في أوامر هدم منازل الفلسطينيين، بحجّة أنها مبنية فوق مواقع أثريّة. ووفقاً لهذه التقارير، مناطق الضفة الغربية مليئة بالآثار والمخلفات الأثرية، وتذكّر بالتّاريخ الغني والمتنوّع الذي عرفته المنطقة، ولكنّ دولة الاحتلال لا تهتم إلا بإثبات روايتها التاريخيّة، ولذا تعمل من خلال مجال الآثار لإثبات العلاقة التاريخيّة والدينيّة والثقافيّة لليهود فقط في منطقة الضفة الغربيّة، وبذلك تحاول مراكمة المبرّرات من أجل استمرار سياسات الاستيلاء والاحتلال والسيطرة الإسرائيلية في هذه المنطقة. وبموجب ما كُتب حتى في افتتاحية "هآرتس" المذكورة، تُخلّ إسرائيل بدورها كـ"وصيّ مؤقت" على المواقع الثقافية، وتسلك درباً لا يتماشى مع مصلحة الفلسطينيين أهالي الضفة، إلى جانب خرقها القانون الدولي وانتهاكها الحقوق الثقافيّة والسياسيّة للفلسطينيين.
ما يجب الانتباه إليه هنا مسألتان: القانون الدولي يُلزم المُحتل بالحفاظ على المواقع الأثريّة في المناطق المحتلّة وحمايتها. وبالرغم من ذلك، يجب أن تكون النشاطات في مجال الآثار محدّدة في نطاقها ونوعيتها، ويُسمح بنشاطات من هذا النوع فقط من أجل حماية الآثار في حال تعرّضها لخطر ما، وبمشاركة المجموعة السكانية المحميّة، بما يتلاءم مع مصالح هذه المجموعة فقط، ويُمنع إجراء تغييراتٍ بعيدة المدى. ولكن من خلال تحليل السياسات الإسرائيلية في مجال الآثار في الضفة الغربية، يتبيّن أن إسرائيل تعطي لنفسها صلاحياتٍ واسعة من خلال خرق واضح للقانون الدولي. وجميع النشاطات الإسرائيلية في مجال الآثار في الضفة تُسخّر لخدمة فكرة الاستيلاء التي، بحسبها، العلاقة التاريخيّة بين المواقع الأثريّة والديانة اليهوديّة تمنح دولة الاحتلال حقوقًا إضافية، من ضمنها الحقّ في السيطرة على المواقع والآثار. وتسبّب السيطرة الإسرائيلية على المواقع الأثريّة الإقصاء الفعلي للفلسطينيين وإبعادهم عن هذه المواقع ومحتوياتها من خلال وسائل عدّة، وبطريقةٍ تُضعف الرابط بين الفلسطينيين وحضارتهم. بالإضافة إلى ذلك، تمنح هذه السيطرة إسرائيل الفرصة لإعادة بلورة الرواية التاريخيّة بطريقة تبرز روابطها بالمواقع الأثريّة، وتطمس الدور التاريخي لشعوب وحضارات أخرى، بالرغم من أنّها جزءٌ من تاريخ المنطقة وقصتها.
المسألة الثانية متعلقة بعلماء الآثار الإسرائيليين الذين يخونون واجبهم العلمي. وما ينبغي التنويه به بهذا الصدد أنّ المحكمة الإسرائيلية العليا أقرّت عام 2019 قرار "الضابط المسؤول عن الآثار في الإدارة المدنية" بأن تبقى طيّ السريّة التامة، هوية علماء الآثار الذين يشاركون في أعمال الحفر في مناطق الضفة الغربية من جهة، والمعلومات عن أين يُخزَّن ما يعثرون عليه من جهة ثانية. وهذا يعني، بكلّ بساطة، أنّ المعلومات الموجودة داخل الخط الأخضر تختلف عن نظام المعلومات خارج هذا الخط، ويكشف أنّ الاحتلال الإسرائيلي المستمر للضفة يُكرّس نوعين من القوانين في ظلّ نظام واحد، وهو ما ينسحب أيضاً على مجالاتٍ كثيرة في أراضي 1967.