اترك لسانك في الزنزانة
لم يثبت أن التعبير عن رأي أو إبداء أي تعاطف، على مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن أن يهدّد استقرار وطن، أو يشكّل خطرًا على سلطةٍ تحكمه بالحديد والنار، وخصوصًا عندما تكون هذه السلطة مدركة تمامًا أنها تمكّنت من إعطاب كل محرّكات الغضب والاحتجاج على استبدادها .. فما الذي يدفع سلطة تزعم أنها أحكمت سيطرتها على كل شيء، وإنها بصدد فتح مساحات للحرية المسلوبة لكي تنزعج وترتعد من تغريدة لناشط سياسي، أو تنهيدة ألم لمعتقلٍ سابق أخرجته للتو من الزنزانة؟
يبدو الأمر محيرًا حقًا حين تأتيك أنباء اعتقال سجين سياسي، بعد أيام معدوداتٍ من خروجه من السجن، بموجب ما يسمى العفو الرئاسي، الذي تتغنّى به السلطة والعاملون في خدمتها على مدار الأسابيع والشهور الماضية.
وتتسع مساحات الدهشة والعجب، عندما يغرق إعلام السلطة الفضاء العام بما يوصف بأنه أخبار سارّة عن توسّع في قرارات منح الحرية على المحرومين منها ظلمًا، في سياق ما تسمّى مراجعات لملف حقوق الإنسان والحريات، سواء كان ذلك استجابة لضغوط خارجية، أو شراء لمواقف سياسية ومساعدات مالية هي في حاجة ماسّة لها، وتسعى إليها بشكل مهين وخادش لقيم واعتبارات وطنية كثيرة.
واقعة إعادة اعتقال الأسير المحرّر بموجب مهرجان العفو الرئاسي، الناشط شريف الروبي، تكشف عن موقف مبدئي من السلطات المصرية ضد الحريات، ما يشي بأنها لا تمنح الحرية لمستحقّ لها إلا على مضض واضطرارًا، من تحت الضرس كما في المثل الشعبي، وكأنها تتخلى عن حفنة من التراب الوطني المقدّس، أو كأنها تتنازل عن جزءٍ من رأسمالها، وبذلك فالقاعدة، والثابت، عندها هو السجن، والاستثناء، والمتغير هو الحرية، ليس بوصفها قيمة بذاتها وحقًا إنسانيًا، وإنما باعتبارها عملةً للتداول في سوق السياسة، أو صفقة بين النظام وطيفٍ من المعارضة المفضلة لديه.
والشاهد أن ما تسمّى الجماعة الوطنية تتحمّل جانبًا كبيرًا من ابتذال مفهوم الحرية والهبوط بها إلى مستويات الصفقة، أو المنحة القادمة ممن لا يطيقون سماع صوتٍ مختلف أو معترض أو حتى متألم، حين راحت تحتفل بما تلقيه هذه السلطة من شرفتها العالية على الواقفين بالأسفل من قرارات عفو، أو بطاقات دخول حفلات الحوار الوطني، الذي يثبت، يومًا تلو الآخر، أنه ليس أكثر من واجهة تجميلية لبناية السلطة.
بهذا الموقف، رضخت هذه "الجماعة الوطنية" لمنطق السلطة في مقاربة موضوع الحرية، إذ لم تعد حقًا يتم انتزاعه بوسائل النضال السلمي، بل صارت مسألة تتوقف على مهارات استجداء نظام لم يعرف عنه في يوم من الأيام أي احترام لحقوق الإنسان، في حياته وحريته، وترتبط كذلك بالقدرة على التصفيق والتهليل لعظمة السلطة التي تقرّر، من وقت إلى آخر، إطلاق سراح حفنة من الأسماء، من بين أكثر من مائة ألف يتكدّسون في الزنازين ومقار الاحتجاز في ظروف بائسة.
وتتّخذ المعادلة بعدًا أسوأ وأخطر حين تتركز عمليات استجداء السلطة (المنصورة) على لون واحد من سجناء الرأي فقط، على نحو يهدر المعايير الحقيقية المحترمة للمطالبة بالحرية لجميع المظلومين، بعيدًا عن التصنيف الأيديولوجي واعتبارات الشللية.
الأخطر من ذلك الإذعان لمنطق أو صيغة "العفو مقابل الصمت"، وكأن المظلوم الذي يغادر الزنزانة وسط زفّة صاخبة، لا يفوتها تحية السلطة وشكرها على عطفها وحنانها، مطالب بأن يسدّد ثمن حريته سكوتًا، وابتعادًا عن أي ملمح من ملامح النقد أو الاحتجاج أو التذكير بضحايا آخرين للقمع والاستبداد لا يزالون في عتمة السجون.
وكأن الجميع توافقوا على صفقة الحرية الممنوحة: اترك لسانك داخل الزنزانة واخرج من السجن للفرجة في صمت على ما يدور حولك، ولا ترفع يدك أبدًا، وإن رفعتها فمن أجل التصفيق للأخبار السارّة، المصنوعة بمهارة درامية شديدة في بلاتوهات السلطة.
قد يخرج الناشط المعاد اعتقاله، بعد يوم أو يومين، أو أسبوع أو شهر، لكن فكرة هذه السلطة عن الحرية لن تخرُج من رأسها أبدًا: لا حرية لمن ينتقد أو يغضب أو يتألم.