"إهدار دم" إلكتروني
شهدنا في الأسابيع القليلة الماضية، إلى ما قبل حفل افتتاح بطولة كأس الخليج العربي في البصرة المقامة حالياً، أنموذجاً عن تأثير مواقع التواصل الاجتماعي في توجيه الرأي العام العراقي وتشكيله، في مقابل تراجع وسائل الإعلام التقليدية عن أداء دور مؤثر يساهم في ترشيد تدفق المعلومات والبيانات التي كان للمزيّف منها تأثير سلبي وصل إلى حد الهذر والهذيان. وللأسف، اندرجت في طوفان هذا الهذيان شخصيات رسمية ومثقفون أو محسوبون على الوسط الإعلامي الرسمي.
المحور الذي سرعان ما تشكّل في بؤرة التغريدات والمنشورات، وصار مثل كرة ثلج تكبر كلّ ساعة، وتسحب معها معلقين ومتابعين كثيرين هو السؤال: هل سيحضُر كاظم الساهر حفل افتتاح "خليجي 25" أم لا؟
في ذروة نمو كرة الثلج هذه، قبل ليلةٍ من حفل الافتتاح، لن تجد سوى هذا الموضوع، وهو يطغى على المواقع العراقية، وساهم فيه استثمار حسابات بعض الصفحات للموضوع وفبركة أخبار مزيّفة، أو جلب فيديوهات قديمة للساهر، وصور له وهو في مطارٍ ما، مع نشر خبر، أن الساهر وصل إلى مطار بغداد أو مطار البصرة، وكل هذه الأخبار تستهدف استثمار "التريند" من أجل زيادة المتابعين.
من أعطى ثقلاً وقوة لتيار الأخبار والمنشورات المزيفة هذا أعلى سلطة في محافظة البصرة، المحافظ شخصياً، الذي حوّل "الأمنيات" الخاصة به بحضور كاظم الساهر إلى ما يشبه الواقع، فصار يغرّد على حسابه في "تويتر" بمعلومات غير مؤكّدة، ختمها بما يشبه القنبلة الإعلامية، حين أعلن، بضرس قاطع؛ أنّ الفنانيْن كاظم الساهر ورحمة رياض سيفتتحان "خليجي 25". في أعقاب ذلك، ارتفع سعر التذاكر المتبقية لحفل الافتتاح بشكل جنوني، ليرجع المحافظ نفسه ويحذف هذه التغريدة، لكن بعد فوات الأوان، فالأجواء كانت قد اشتغلت بسببها.
سرعان ما تحوّل كاظم الساهر، وخلال أسبوع تقريباً، إلى وليمة مفتوحة، مدّ الجميع تقريباً يده فيها، إلّا الساهر نفسه! فاستثمر المدوّنون القريبون من الأحزاب الإسلامية الموضوع، ليكيلوا الشتائم للساهر، ويتّهموه بالولاء للنظام السابق، واستثمرت الصفحات التي تريد رفع أعداد متابعيها الموضوع، وردّ محبو المغني الشهير على طوفان الاتهامات، وكان الغائب الأساسي في كلّ هذه الدوامة هو المعلومات المؤكّدة. وما عزّز نقص المعلومات أنّ الساهر لم يصدُر منه أيّ بيان أو تغريدة، فحسابه الرسمي على "فيسبوك"، مثلاً، كان قد نشر شيئاً عن حفل رأس السنة. ثم ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو قصير من مقابلةٍ معه أجريت قبل حفله في بيروت أخيراً، أشاد فيها الساهر بحدث إقامة "خليجي 25" في البصرة، ومدح البصرة، وحيّا المشاركين في المناسبة الرياضية، لكنّه لم يعلّق على ما يدور بشأنه في مواقع التواصل الاجتماعي.
من خلال مصادر مقرّبة من وكيل أعمال كاظم الساهر، تسرّبت معلومات يمكن الوثوق بها أنّه لم تكن هناك دعوة أصلية، كما أنّ الساهر لم يعطِ وعداً واضحاً بحضور الافتتاح. لكنّ كلّ هذا تغطّى بالكم الهائل من المعلومات المزيّفة والاستثمار غير النزيه للقصة كلّها، من أجل الدعاية والترويج، وتحوّل الموضوع كلّه إلى منصّة لمحاكمة "الموقف الوطني" للساهر، وكيف أنّ عدم حضوره يخدِش في وطنيته، حتى المدافعون عنه كان بعضهم يشعر بالحرج، ويرى لو أنّ الساهر كسر حدّة هذه الاتهامات وحضر في أيّ حال، لكان الأمر أفضل لصورته بين متابعيه.
الخطير الذي جرى هو هذه القدرة التي تملكها مواقع التواصل الاجتماعي على إشاعة جو عام يهدر دم فنانٍ هو الأكبر حالياً على الساحة العراقية والعربية ربما، وهو "إهدار دم" لم يقف المثقف والإعلام الاحترافي المهني فيه موقفاً جدّياً، بل إنّنا رأينا شعراء وأدباء يكتبون ما يشبه "الفتوى" الوطنية بإهدار الدم، وإخراج أكبر فنان عراقي من ساحة الوطنية والشرف. ولم يكن هناك هامش لتفهم الموقف الخاص لهذا الفنان، إن كان موقفاً عاماً تجاه وضع البلد حالياً، أو لمجرّد مخاوف أمنية، أو لأيّ سبب كان، فالأصل هو احترام حرّية الإنسان، فناناً أو شخصاً عادياً، في اتخاذ ما يراه مناسباً من قراراتٍ تخصّ عمله، ولا ترفع بوجهه هراوة متطرّفة عما نراه وطنياً أو أخلاقياً، وهي تصوّرات يفرضها الحماس الشعبوي، وليست النقاشات العلمية والموضوعية.