إلياس خوري منذ 2011
تعدّدت وجوه إلياس خوري، ففي الأدب، ظلّ روائياً وناقداً وأكاديمياً (يحمل الدكتوراة) ومدرّساً جامعياً (في الولايات المتحدة وغيرها)، فإلى نصوصه الروائية المعلومة، نشط ناقداً، وله أكثر من كتابٍ عن نصوص شعريةٍ وسردية، سيّما في الثمانينات، قبل أن ينعطف إلى التخفّف من صفته هذه، ويُؤثر حضوراً ثقافياً أوسع، ينطلق من وجوب أن يُشهر الكاتب مواقفه في الشأن العام، الوطني العربي العام، والمحلي اللبناني، وكذا في مستجدّات العالم ومتغيّراته. وفي غير الأدب، كان من ألمع الذين اشتغلوا في الصحافة الثقافية العربية، اللبنانية تعييناً في طوْرها الأنجح، في بيئة بيروتية كانت تتوفّر على مساحاتٍ وفيرةٍ من الحرّية والتنوع والتعدّد، مع شروط المهنيّة والجاذبيّة، ولا يزال جيلٌ من القرّاء اللبنانيين (والمشارقة إلى حد ما) يقيم على حنينٍ (مسوّغ) إلى تلك المرحلة التي أشرف في غضونها إلياس خوري على الملحق الثقافي في صحيفة النهار، ذات الأنفاس الليبرالية، وقبله على القسم الثقافي في شقيقتها صحيفة السفير، ذات الأنفاس العروبية. وإلى الأمريْن، واظب صاحبُنا على كتابة مقالاتٍ في الصحافة، بمثابرةٍ تبعث على الإعجاب، ومن ذلك حضورُه منذ التسعينات كاتب عمود أسبوعي في الزميلة "القدس العربي"، قرأنا أخيراً أنه حرص على أن لا يغيب عنه في شهور مرضه الأخيرة، فكان يُملي المقالة على ابنته لكتابته، عدا عن مساهماته في منابر أخرى، سيّما افتتاحياته في فصلية مجلة الدراسات الفلسطينية التي ترأس تحريرها (عمل قبل عقود في تحرير "شؤون فلسطينية"). وليس من جديدٍ في قول من يقول إن كل هذه الخبرة الطويلة في متابعة الجديد، ثقافياً وفكرياً، وبالتالي سياسياً، والتعليق عليه بالرأي ووجهة النظر والتعليق والتعقيب، سلّحت الروائي (والقاصّ) بذخيرةٍ غير هينة الأثر في بناء اجتهاداته، معطوفا عليها خبرته الخاصة، الميدانية والحياتية، وصلاته بالناس، وتقصّي الحكايات والمرويات العابرة للطبقات والطوائف والجنسيات، ولا يُنسى هنا أنه ترأس إدارة مسرح بيروت.
وإذا شئنا تصنيفاً لصاحب "الوجوه البيضاء"، لا نُخطئ في القول إنه كان في ضفّة اليسار الديمقراطي، الوسَطي إذا صحّ التقدير، غير أن الأهم أنه زاوج بين ما كانت ملحوظةً فيه من راديكاليةٍ في غير شأنٍ وما كان يتبدّى عليها من ليبراليةٍ ظاهرةٍ في شؤون الحرّيات الفردية والعامّة. ومع التذكير بما ألحّ عليه صاحب هذه الكلمات، أن من أهم مقاييس النظر إلى المثقفين العرب مواقفهم بعد هبّات الربيع العربي في 2011 وانتفاضاته التي طالبت بالتحرّر من الاستبداد والفساد، وما صاروا عليه بشأن الثورات المضادّة، الانقلابية وغيرها، وليس بالضرورة ما كانوا عليه في ماضٍ لهم، مع كل التقدير لتجاربهم، ولنضالات بعضهم، سيّما المخضرمين منهم، ولكي لا تنصرف هذه المقالة عن عنوانها أعلاه، فإن إلياس خوري اتّسق مع نفسه تماماً، عندما ناصر بشدة الثورات العربية، في مصر وتونس واليمن وسورية وليبيا، وعموم الانتفاضات، في بلده لبنان، ثم في العراق والجزائر. ولم يأخُذ نفسَه إلى الهوى إياه، منازعة الإسلاميين، و"الإخوان" في صدارتهم، فيناصر الانقلابيين ضدّهم، ويصطفّ مع الذين ناهضوهم بالدعاوى إياها. لقد ظلت قيم الحرية ومناوأة الاستبداد عنوانا رئيسا في كل مواقف أعلنها إلياس خوري بعد العام 2011، ومن دون مداهنة مع أحد أو حزب أو تيّار، فلا يمكن أن تعني مناهضة الإرهاب وقوى التشدّد والتطرف وجبهات القتل الأعمى في سورية وقوفاً مع نظام بشار الأسد، ولا يمكن لها أن تأخذ المثقف الديمقراطي إلى التموضع مع المذكور ونظامه، بزعم الحفاظ على الدولة السورية وعلمانيّتها، فهذان لم يكونا في أي يوم علمانيّين، ولم ينتهك المتآمرون هذه الدولة بقدر ما استباحتها قوى النظام وطيرانه ومليشياته. وبشأن مصر، كان إلياس خوري، للحق، ضد سلب إرادة المصريين، وضد جولات القمع التي طاولت آلافاً من الناشطين والمثقفين والميدانيين، وجهر بموقفٍ متقدّم في الشأن المصري العام، في أجواء نظام ما بعد انقلاب 2013. وعلى هذا الخط، حافظ كاتب "الذاكرة المفقودة" على مساره مثقفاً شديد الانحياز إلى المقاومة الفلسطينية، بأي تلاوين لها، ومسكوناً بالهمّ الفلسطيني المديد، وهو الذي انخرط منذ شبابه الأول في مؤسّسات العمل الفلسطيني، المسلح والثقافي والإعلامي وغيره. وحافظ على مساره مثقّفاً مستقلاً، عندما بقي بعد 2011 كما كان قبله، على غير ما فعله يساريون عربٌ غير قليلين، آثروا مداهنة أنظمة البساطير والتسلط.