إلى أين تسير قاطرة الانقلاب في تونس؟
من الواضح أن انقلاب قيس سعيّد في تونس يواجه مآزق كثيرة، أدخلته في متاهات ليس من اليسير عليه الخروج منها، يعود بعضها إلى التكوين الجيني للانقلاب نفسه، وبعضها الآخر يتعلق بالأداء السياسي لسعيّد ومزاجه الشخصي، وطبيعة التوازنات السياسية العامة داخليا وخارجيا، والتي لم يُحسن الرجل قراءتها بالأمس القريب، ولا أتصوّر أنه سيُحسن قراءتها اليوم أو الغد، لأنه مصرٌّ على إدارة الشأن السياسي ومقاليد الحكم بعقلية التحدّي والمعادلة الصفرية القاتلة، وفق المقولة التي ظلّ يردّدها كثيرا "النصر أو الشهادة"، وكأنه وضع نفسه في مقاومة محتلٍّ أجنبي، وهو يقود انقلابا على الشرعية والمؤسسات.
تمتد المكونات الجينية للأزمة إلى الأصل التكويني الذي تخلّق فيه الانقلاب، أي الأزمة الاقتصادية والمالية والصحية التي عمل قيس سعيّد على الاستثمار فيها حتى العظم، لتبرير انقضاضه على السلطة، من دون أن تكون له رؤية أو مشروع محدّد لمرحلة ما بعد تحريك الدبابات نحو مجلس نواب الشعب، سوى أن يشبع شهوته في السلطة والانفراد لا غير، فقد عمد الرجل، وبصورة منهجية ومدبّرة، إلى شلّ عمل حكومة هشام المشيشي التي اختارها بنفسه ثم انقلب عليها، وقبل ذلك رفض التحوير (التعديل) الوزاري والامتناع عن تشكيل المحكمة الدستورية والاستحواذ على المساعدات الصحية وتخزينها لتغذية مناخات الغضب العام وتحريك كل مراكز الضغط ضد حكومة المشيشي. قام الانقلاب على خدعة كبيرة، أنه سيجلب الرفاه والتنمية وكل ما عجزت عن تحقيقه الحكومات السابقة، بمجرّد إطاحة البرلمان والتخلص من الطبقة السياسية، مع بيع الأوهام ورفع سقف الانتظارات أمام شباب محبط وغاضب من مرحلة انتقال صعبة، ومن ذلك ترويج سعيّد أن البلد غني والأموال كثيرة وهي في متناول اليد، بمجرّد أن يضع السلطة بين يديه، ويقوم بدوره المنتظر في التطهير السياسي الشامل.
كان الانقلاب يحمل، في أحشائه، إعاقة ذاتية منذ البداية، لأن ساكن قرطاج لا يمتلك قاعدة اجتماعية صلبة، ولا حزبا حاكما قويا يمكن أن يتكئ عليه، ولا امتداد فعليا داخل الدولة العميقة سوى بعض المكوّنات التي أرادت أن تركب ظهره للوصول إلى مبتغاها في الانتقام من الثورة. وكل ما يملكه هو سلاح كل الشعبويين، القائم على الخطب النارية وإطلاق الوعود الوهمية الملهبة للخيال، والمحركة للمشاعر لدى جمهورٍ محبط لا غير. ورغم حديث قيس سعيّد المتكرّر عن الشرعية والمشروعية، فقد بينت الأحداث على الأرض أن قاعدته الشعبية تتآكل يوما بعد يوم، ودليل ذلك عجزه الفادح عن تجميع الأنصار في الشارع يوم 8 إبريل/ نيسان الماضي، رغم كل حملات الدعاية والتجييش التي انخرط فيها الوزراء وكل ومؤسسات الدولة تقريبا. كما أن المشاركة المحدودة في الاستشارة الإلكترونية التي لم تتجاوز 5% من عموم الناخبين تعطينا صورة كاشفة عن الوزن الشعبي المزعوم للرجل. الحقيقة أن قيس سعيّد هو ظاهرة افتراضية بامتياز، بعدما تجنّدت دولٌ ولوبياتٌ لصالحه في إغراق الفضاء الافتراضي بمناصرته وسبّ خصومه.
عزل قيس سعيّد 57 قاضيا بضربة واحدة، من دون الاحتكام للحد الأدنى من الإجراءات القانونية، أو إعطائهم حتى حقّ الدفاع عن أنفسهم
وفي ما يتعلق بالأداء السياسي العام لساكن قرطاج، فهو يتراوح بين التعثر والفشل الذريع، إذ صمّم قيس سعيّد على فتح جبهات صراع كثيرة، وفي كل الاتجاهات تقريبا، مع إصرارٍ عجيبٍ على المضي في معاركه السياسية إلى حدودها القصوى، والامتناع عن أي تسوياتٍ أو تفاهماتٍ بما في ذلك مع الحلفاء، فمن سلم من الاستهداف السياسي والقضائي المباشر ناله قليل أو كثير من قاموس السبّ والشتم الذي شمل الجميع تقريبا، فالرجل لم يترك له حليفا أو صديقا، ولم يستبق حوله سوى بعض الشخصيات النكرة والغامضة، ممن يتحدّثون عن تغيير تاريخ البشرية ومفسّري نظريات الرئيس وأقواله، وحتى بعض هؤلاء بدأ يقفز من المركب بلا رجعة.
الاحزاب والقوى التي ركبت موجة الانقلاب، ظنا منها أنه سيقاسمها الغنيمة، ويخلّصها من خصومها الذين عجزت عن منافستهم بصندوق الاقتراع، وجدت نفسها، في نهاية المطاف، مجرّد أداة وظيفية في مشروعه الاستحواذي على السلطة، بما دفعها كرها نحو مغادرة مربّع المساندة باتجاه المعارضة.
ما برع فيه قيس سعيّد هو توسيع صف الخصوم من كل الاتجاهات والألوان، مع قدرة فائقة على الهدم والتقويض للنظام والمؤسسات، من دون أن يمتلك القدرة أو الإرادة في البناء وإعادة التأسيس. دشّن معركته بتوجيه سهامه الحادّة للبرلمان في إطار من التناغم والتنسيق مع القوى الفوضوية التي عملت على ترذيله، متذرّعا بمقولة الخطر الداهم التي تمنحه غطاء لاستخدام الفصل 80 من الدستور، ثم تقدّم خطوات أخرى مباشرة باتجاه تعطيل العمل بالدستور، ثم إلغائه جملة، ثم استخفّ بفصوله وأبوابه مردّدا مقولته المعهودة "الدستور أكله الحمار"، بعدما استظل به في تنفيذ انقلابه... أما اليوم فتكثف نيران قيس سعيّد على ثلاث خطوط رئيسية ذات أولوية مطلقة.
معركة أولى مع القضاء الذي راهن عليه في البداية لضرب خصومه، فلم يجد الاستجابة المطلوبة، فعمد تبعا لذلك إلى عزل 57 قاضيا بضربة واحدة، من دون الاحتكام للحد الأدنى من الإجراءات القانونية، أو إعطائهم حتى حقّ الدفاع عن أنفسهم، وكان ذلك بذريعة مقاومة الفساد. والحقيقة التي بات يعرفها الجميع أن أغلب القضاة المعزولين خضعوا لعقوبات انتقامية، لأنهم لم يسايروا رغبة ساكن قرطاج في إصدار أحكام تحت الطلب ضد أعضاء مجلس النواب وشخصيات سياسية وقيادات الأحزاب والمنظمات التي يريد أن يتخلّص منهم جميعا تحت عنوان "القضاء أخذ مجراه" وكفى.
ثانيا، محاولة تطويع المنظمة الشغيلة ومحاصرتها (الاتحاد العام التونسي للشغل)، بسبب امتناع أمينها العام عن حضور مجالس حوار صورية يُراد منها تمرير دستورٍ معدّ سلفا في الغرف المظلمة لقرطاج، تمهيدا لتنظيم استفتاء صوري، يتيح له تقويض النظام السياسي، وإحلال نظام رئاسيوي فردي محله. وقد وجد من المنظمة صدّا قويا، لأنها تدرك أن رأسها مطلوب من قيس سعيّد رغم مسايرتها الانقلاب في البداية.
مستقبل الانقلاب يرتبط أساساً بموازين القوى على الأرض، ومدى تصميم قوى المقاومة المدنية وصلابتها في الميدان
أما الخط الثالث الذي دشنه قيس سعيّد منذ فاتحة الانقلاب فهو العمل على ضرب الأحزاب وتطويقها، وفي مقدمة ذلك حركة النهضة. ولا تنفصل هذه المعركة عن خصومته المفتوحة مع المؤسّسة البرلمانية ورئيسها، فقيس سعيّد لا يحتمل وجود أي قامة سياسة أعلى منه شأنا وأعرق امتدادا وتاريخا، ويريد عملية تجويفٍ مطلق للساحة السياسية، ومن ثم إقامة نظام سياسي من دون أحزاب ولا منظمات ولا أجسام وسيطة، نظام سياسي تتجمّع فيه كل السلطات بين يديه وحده من دون شريك أو حسيب أو رقيب.
وعلى الجهة الخارجية، انخرط قيس سعيّد في مناكفات مع الأوروبيين والأميركان وصندوق النقد الدولي والمنظمات الدولية، وكانت آخر معاركه مع لجنة البندقية التي انتقدت مراسيمه غير الدستورية في ضرب الهيئة المستقلة للانتخابات، وتنصيب رئاسة جديدة لها، واصفا ما يقوم به بالاجراءات الانقلابية.
يجري هذا كله في أجواء أزمة مالية واقتصادية مستفحلة، بعدما نضبت موارد الدولة وتعطّل الاستثماران، الداخلي والخارجي، وامتنع رؤوس القطاع الخاص عن المغامرة بأموالهم في وضع سياسي مهتزّ، مع استشراء حالة البطالة والفقر واستفحال أجواء اليأس بين الشباب. لم يبق لقيس سعيّد الآن إلا المراهنة على المال الخليجي الذي يسيل له لعابه، ولكن من دون أن يأتيه شيء يُذكر.
بموازاة ذلك، لم تهدأ قوى المقاومة المدنية عن التحرّك في الشارع والساحات العامة. وعلى الرغم من أن القوى السياسية لم تصل إلى وجود إطار هيكلي جامع، إلا أنها التقت على الهدف، واتحدت في الميدان على دحر الانقلاب وإسقاط الاستفتاء، فهناك جبهتان رئيسيتان نجحتا في تجميع صفوفهما، جبهة الخلاص الوطني بقيادة نجيب الشابي المسنودة من قوى سياسية وازنة، مثل حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة و"مواطنون ضد الانقلاب"، ثم تكتل الأحزاب الاجتماعية الذي يضم خمسة أحزاب يسارية، يتقدّمها الحزب الجمهوري والتيار وحزب العمال. وعلى الجهة الأخرى تبخرت القاعدة الاجتماعية لقيس سعيّد وتضاءل حضور الأنصار، على الرغم من أن ما سمّي الخيار الثالث ظل مغريا لبعضهم، إلا أن الأمور تحوّلت باتجاه استقطاب ثنائي حاد بين خياري الدفاع عن الانقلاب أو مواجهته.
الجهة الوحيدة التي يستند إليها سعيّد هي الأجهزة الصلبة للدولة، لا غير، أي الأمن والجيش
من الواضح الآن أن الجهة الوحيدة التي يستند إليها قيس سعيّد هي الأجهزة الصلبة للدولة، لا غير، أي الأمن والجيش. وعلى الرغم من اختراقاتٍ أحدثها سعيّد في قطاع الأمن على وجه الخصوص، من خلال تنصيب قيادات أمنية موالية له مرتبطة بشخصه ومحيطه العائلي، ورغم وجود قيادات عسكرية موالية لقرطاج، إلا أن ولاء هذه الأجهزة يظلّ، في نهاية المطاف، للدولة أكثر من الأشخاص، ومن الممكن أن ترفع عنه الغطاء كلما شعرت أنه أصبح يمثل عبئا ثقيلا على الدولة وعلى البلاد والعباد. وليس سرّا أن هذه المؤسسات باتت تشعر بالضيق الشديد من تمادي قيس سعيّد في تفكيك مؤسسات الدولة، وفرض نظام سياسي فوضوي لا علاقة له بالأعراف السياسية لتونس، ولا بالثقافة السياسية للنخبة التونسية، كما أن الأطراف الدولية هي الأخرى أضحت تضيق ذرعا به، ليس حبّا في الديمقراطية والديمقراطيين (فهذه مجرّد خطاب تجميلي)، ولكن لأن الرجل تمادى في تقويض المؤسّسات، ولم يترك لها حتى بعض الأطلال الديمقراطية بما يعطيها مبرّرا لتسويقه، كما أن سلوكه السياسي المغامر يثير مخاوف من تحالفاته الخارجية في ظل وضع دولي يتجه نحو مزيد من الصراع والاستقطاب. لقد تحمّلت الأطراف الدولية مغامرات معمّر القذافي ونزواته، لأنه يمتلك بترولا وغازا وامتدادا جغرافيا هائلا، ولكن ما الذي يحملها اليوم على قبول قذافي فقير وموتور على حدودها الجنوبية؟
بقي أن نقول إن مستقبل هذا الانقلاب يرتبط أساسا بموازين القوى على الأرض، ومدى تصميم قوى المقاومة المدنية وصلابتها في الميدان. ولذلك يظل الحل والربط بيد التونسيين، أولا وأخيرا، وليس أمامهم اليوم إلا التعويل على أنفسهم لنزع الشوك بأيديهم وإغلاق قوس هذه الحقبة المظلمة التي ارتكست إليها تونس ما بعد الثورة.